في المدن المزدحمة والقرى الهادئة، تعيش آلاف الحكايا التي تمتلئ بصخب آمال ساكنيها وتحدياتهم اليومية شرقاً وغرباً، تلك الحكايا التي على الرغم من اختلافاتها تستظل تحت نسق ثقافي واحد، مما يخلق ذلك التشابه الغريب بينها..
”لو كان هناك من يسمعنا لما كتبنا على الجدران“، هكذا تقول إحدى العبارات المكتوبة على جدران مدينة سعودية، يبرر فيها كاتبها خرقه لقوانين حفظ الممتلكات العامة، هكذا كتب بعنفوان، إلى من يهمه الأمر، وإلى من لا يهمه حتى..!
لا أتحدث عن فن الرسم على الجدران هنا أو عن المعارض التي تقام بترتيبات سابقة، ولكن عن تلك الكتابات العفوية جداً، الصادقة جداً -بغض النظر عن كونها قانونية أم لا - التي لا يهم أحدهم أن تنسب إليه شخصياً. ما حدث ببساطة هو أن أحدهم اختار جداراً ما؛ ليخرج بعض الكلمات إلى حيز الوجود، حرة بعد أن كادت تخنقه!!
في السعودية، لا يخفى على أحد كتابات “أبو نواف” وغيره، الألقاب المكتوبة بالخط العريض جداً، رسومات القلوب، ”وعلى طاري الحب“، فإنك لن تستطيع تجاهل هذه العبارات المعاتبة المقتبسة من أغنيات مشهورة مثل:
“حسيبك للزمن “، “الله يسامح عيونك”، وأخرى تخنقها العبرة: “يا أهل السكن عندكم روحي”، أو تلك التي تعلن راية استسلام أخيراً مثل: “أنا لا أصلح للحب”! كما ترى العبارات المتشائمة جداً والأخرى النابضة بالأمل، ولا تغيب الكتابات الدينية، والرياضية عن تلك الجدران، أو الرموز المجردة من المعاني.
السؤال الذي أريد طرحه هنا هو ما الذي تعكسه هذه الكتابات عن الجانب الثقافي والاجتماعي؟ ما الذي تحاول هذه الجدران البوح به عن توجهات هذا المجتمع، وماذا سنجد إذا قرأنا بين سطورها؟
هل يمكننا محاولة فهم جانب من ثقافة من خلال جدرانها؟! ماذا تقول الجدران؟
يقول مسؤول البيئة والسلامة بمشروع دار الهجرة، معاذ العوفي، من خلال توثيقه للكتابات الجدارية في السعودية على مدى عامين: "أول ما يمكن أن تستشعره من هذه الكتابات، هو غلبة صيغة التشكي العاطفي عليها، فكانت تتحدث عن العاطفة وتتكلم بشكل صريح جداً عن الحب.
حتى أن بعض الكتابات لا يوجد بها غير كلمة “أحبك”، ومن أكثر ما كان يتكرر أيضاً صيغة: حرف + حرف = حب، بالإضافة إلى رسمة القلب بأشكاله، عادياً أو مخترقاً بأسهم أو أحياناً سيوف! ومن جهة ثانية تكثر الكتابات التي تحمل شكوى على الدنيا، ونسبة قليلة منها بها تصريحات اجتماعية. كما وجدت أن في بعض الأحيان الكتابات تختلف من حي إلى حي آخر، وهذا يعود من دراستي البسيطة للأمر إلى التعليم ومصدر الدخل، والطبقة الاجتماعية في كل منطقة. وأضاف: “من خلال توثيقي وجدت أن هذه الجداريات تعكس معاناة أحياناً، ونقصاً في جوانب معينة لمن كتبها، كذلك برز النقص العاطفي، ومحاولات لترك الأثر من قبل الشباب، وكأن هذا هو أدنى ما يمكن أن يفعلوه في سبيل ترك بصمة ما. ومن جانبه أكد أننا نحتاج إلى تحويل هذه المواهب إلى فن عوضاً عن كونها عشوائية، واستغلال طاقات الشباب.
يقول أحد الذين كتبوا على جدران مدينة جدة، محمد، 26 عاماً: “كتبت اسماً اشتهر به على أحد جدران الحي الذي أعيش فيه سابقاً، فقط كنوع من إثبات أنني أعيش في هذا الحي وأنه ”منطقتي“، وأرى أن الكتابات قلّت كثيراً في الآونة الأخيرة؛ لأن القدرة على التعبير في وسائل التواصل الاجتماعي، خففت كثيراً من الحاجة إلى التعبير على الجدران. ” وعن الأسباب التي تدفع أحدهم إلى الكتابة على الجدران تقول أستاذة علم النفس، د. أروى عرب: “غالباً ما يصدر هذا الفعل من فئة الشباب؛ لأنهم في هذه الفترة يتجهون إلى إثبات ذاتهم والتعبير عن آرائهم، كما يرغبون أن يكون كلامهم مسموعاً، وعند عدم وجود المتنفس المناسب للتعبير، سواء في البيت أو المدرسة أو غيره، نجد أنهم يلجأون إلى التعبير عبر الكتابة على الجدران بلا قيود. وتتنوع الأسباب كذلك، فمنها ما يكون نابعاً من جهل أو عناد وربما فراغ، أو لفت للانتباه، التقليد ومشاركة الأصدقاء، وقد يكون نابعاً كذلك من بعض الاضطرابات النفسية.
الحب، الشكوى من الدنيا، المشاعر النقية التي تصطدم بواقع لا تفهمه، في حين تتكفل الجدران بحمل رسائل جريئة وقوية إلا أنها خائفة. أين يمكن أن تختفي الحقيقة عندما تحكي الجدران؟!