منذ تولي آن ايدالغو Anne Hidalgo منصب عمدة باريس، لم تكف العلاقات بينها وبين سكان باريس عن الاحتقان، بسبب إشكالية وحاجة تتكرر باستمرار، وتتمثل في إصرار العمدة على تخصيص مساحات وطرقات جديدة وإضافية للدراجات، على حساب الطرقات المخصصة للسيارات ووسائل النقل الأخرى. وقد أدى ذلك إلى اختناق أبرز شوارع باريس بأزمة سير لم تعد تقتصر على ساعات الذروة، بل تمتد طوال ساعات النهار، حيث أصبح الباريسيون مضطرين لقضاء ساعات طويلة في وسط الزحمة للتوجه إلى أماكن عملهم أو العودة منها. وبالرغم من موجات الاحتجاجات العديدة والعرائض الكثيرة تم إطلاقها عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن عمدة باريس مازالت متمسكة بخطتها الهادفة لجعل باريس أكبر عاصمة نظيفة بيئياً في العالم. وهي الخطة التي رصدت لها بلدية باريس ميزانية تجاوزت 150 مليون يورو.
من جدل بيئي إلى أزمة سياسية
بدأت باريس في محاربة تلوث البيئة، منذ ما يقارب ربع قرن، وبسبب التحذيرات الطبية من تفاقم الأمراض المزمنة التي يسببها تلوث الجو. وقد أكدت آخر الدراسات العلمية أن تلوث الجو في العاصمة الفرنسية، بسبب الاستعمال المفرط للسيارات، يؤدي إلى وفاة قرابة 48 ألف شخص سنوياً. وكان عمدة باريس السابق، برتران دولانوييه Bertrand Dolanoe أول رجل سياسة ترشح لمنصب عمدة باريس، عام 2001، ببرنامج تمحور أساساً حول محاربة التلوث البيئي. وقد ترجم برنامجه عندما فاز بالمنصب، بتأييد كبير من حزب أنصار البيئة «الخضر» من الشروع بتخصيص طرقات ومسالك خاصة للدراجات والحافلات، على حساب المسالك التي كانت في السابق مخصصة للسيارات.
كان هدف تلك السياسة دفع سكان باريس إلى التخلي عن سياراتهم واستعمال وسائل النقل الجماعية. ثم شُرع في وضع برنامج لتشجيع سكان باريس على استخدام الدراجات. فبالإضافة إلى إنشاء مسالك خاصة بالدراجات، أطلقت خدمة لتأجير الدراجات بأسعار زهيدة، أطلقت عليها تسمية Velib، أي دراجات الحرية. وسرعان ما انتشرت محطات تأجيرها في مختلف الأحياء الباريسية، لتسهيل تنقلات الناس باستعمال الدراجات.
عندما انتهت ولاية باتران دولانوييه الاثنية في منصب عمدة باريس، عام 2014، خلفته آن إيدالغو، التي تنتمي مثله إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي. وكان ذلك منعطفاً حاسماً في السياسة البيئية للعاصمة الفرنسية، حيث لم يعد الأمر مقتصراً على تخصيص مسالك للدراجات أو إقامة المزيد من محطات تأجيرها، بل شُرع في سياسة أكثر تشدّداً وصفتها وسائل الإعلام، وبالأخص منها الصحف المحافظة، بأنها بمثابة «إعلان حرب» ضد أصحاب السيارات. ولم تعد بلدية باريس تكتفي بالسعي لتشجيع الباريسيين على استعمال وسائل نقل بديلة، بل بدأت بتخصيص شوارع طرقات كاملة للدراجات والمشاة ومنع سلوكها نهائياً من قبل أصحاب السيارات.
من هذا المنطلق أعلنت عمدة باريس عن خطة خماسية تمتد من 2015 إلى 2020، وتقضي برفع نسبة الشوارع المخصصة للدراجات والراجلين من 5 % إلى 15%. ووفقا لهذه الخطة سيكون هناك ما لا يقل عن 1400 كيلومتر من الشوارع والمسالك المخصصة حصرياً للدراجات، مع حلول سنة 2020. بالتزامن مع ذلك، تقرر التضييق على استعمال السيارات الأكثر تلويثاً للبيئة، التي تشتغل بالديزل تدريجياً، تمهيداً لمنع استعمالها نهائياً في شوارع باريس، مع حلول سنة 2020 أيضاً.
تذمر السكان
هذه السياسة الهادفة لجعل باريس أول عاصمة إيكولوجية في العالم، أثارت تذمر السكان المضطرين لاستعمال سياراتهم، بعد أن تم سن قوانين رادعة ضد أصحاب السيارات التي تسير بـ«الديزل» أو التي يزيد عمرها على 10 سنوات، حيث يُمنع أصحابها من استعمالها في الأيام التي يرتفع فيها مستوى التلوث. وقد وضعت بلدية باريس مؤشراً بيئياً يقيس يومياً نسبة التلوث الناجمة عن الغازات السامة التي تنبعث من محركات السيارات، والتي تتسبب في ظاهرة الضباب الدخاني الذي يتسبب في انتشار الربو والأمراض التنفسية الأخرى. وكلما تجاوزت نسبة التلوث السقف القانوني المحدد من قبل بلدية باريس، يمنع استعمال السيارات الأكثر تلويثاً.
بالرغم من التضييقات التي كانت تتسبب فيها هذه الإجراءات، إلا أن السكان كانوا يقلبونها لأنها تهدف إلى حماية الصحة العمومية. لكن أصواتاً كثيرة بدأت ترتفع لانتقاد بعض الخطوات التي أقبلت عليها عمدة باريس، في صيف هذه السنة، وبالأخص حين قررت تخصيص الشارع الذي يعبر باريس من شرقها إلى غربها، بمحاذاة نهر السين للمشاة والدراجات الهوائية فقط. مما أدى إلى اختناق وسط المدينة بالزحمة. ثم جاءت خطوة تضييق شارع «ريفولي»، الذي يعد الشريان الرئيسي لوسط مدينة باريس، حيث يربط ما بين ساحتي «الكونكورد» و«الباستييه» الشهيرتين، واقتطاع نصف مسالكه لتخصيصها للدراجات. الشيء الذي جعل الجدل يتحول من موضوع بيئي إلى أزمة سياسية، حيث لم تعد الانتقادات الموجهة لعمدة باريس صادرة فقط عن أصحاب السيارات، بل ارتفعت أصوات كثيرة، في الوسط الصحي، للتحذير بأن «هوس الدراجات» الذي تشتهر به آن إيدالغو لا يصب في حماية البيئة بشكل فعلي؛ لأن تفاقم الزحمة في وسط باريس من شأنه أن يفرز مزيداً من التلوث والأضرار الصحية للسكان والمارة.
أزمة سياسية
وآخر فصول هذا الجدل انفجار أزمة سياسية بين عمدة باريس وحاكم مقاطعة «إيل دوفرانس»، التي تقع في العاصمة باريس، ميشال كادو، الذي رفع تقريراً إلى رئاسة الحكومة يحذر فيه من «العواقب الأمنية التي قد تنجر عن هوس عمدة باريس بالدراجات»، واشتكى التقرير بأن الزحمة المتفاقمة وتضييق شوارع باريس لتخصيص مسالك للدراجات لم يعد يعيق فقط حركة سير المواطنين، بل بات من الصعب على سيارات الشرطة والإسعاف والمطافئ أن تتنقل بالسرعة المطلوبة؛ لأن شوارع كثيرة باتت ضيقة إلى درجة لم تعد تسمح لأصحاب السيارات بإفساح المجال لمرور تلك السيارات التي لها الأولوية، بحكم مهامها المستعجلة.
«هوس الدراجة» يثير أزمة سياسية في فرنسا
- أخبار
- سيدتي - أسماء رمضاني
- 26 أكتوبر 2017