لم يكن أحد يعلم بأن ذلك الطفل الفلسطيني الذي يعمل في "البيتون" ويتناول طعامه مجبولاً بالعرق والألم على سطح أحد الابنية في ضواحي دمشق، سيصبح الزعيم السياسي لقضية العرب المركزية منذ عقود.
هذا ما يكشف عنه الرئيس الفلسطيني محمود رضا عباس (مواليد صفد عام 1935) في حواره مع مجلة الرجل، حيث أجبر مع عائلته على مغادرة بلاده إثر نكبة عام 1948، ليستأجروا داراً مؤلفة من غرفتين في أحد الأحياء الفقيرة بالعاصمة السورية دمشق.
يقول عباس: "لقد نفذ ما لدينا من مال، وكان علينا جميعاً أن ننزل إلى ساحة العمل، لنكسب قوت يومنا، وكي لا نمدّ أيدينا إلى الناس، عملت مع معلم "بلاط"، كنت أجبل الإسمنت والرمل، وأنقل له "البلاط" بأجر ليرة سورية واحدة، من طلوع الشمس حتى مغيبها، وطعامي رغيف خبز وصحن دبس، لم يتغير طيلة ستة شهور.
يضيف عباس: "كنت أثناء ذلك أشاهد الطلاب في مثل عمري يذهبون إلى المدارس، وألمح بعض من كنت معهم في مدرسة صفد، فينفطر قلبي حزناً وأسى على نفسي، وأتساءل، لماذا لا يتاح لي أن أذهب إلى المدرسة وأتعلم كبقية أبناء سني؟".
مرض الطفل عباس بسبب العمل المجهد في "البيتون" وحمل "البلاط"، فانتقل ليعمل فراشاً في مكتب عقاري، ومن عمل لآخر حتى استقر به الحال ليصبح نادلاً في مطعم يعمل من الصباح إلى منتصف الليل.
ولكن قسوة الظروف لم تحل دون إكمال عباس لدراسته متحدياً الفقر والغربة، فتمكن من متابعة تحصيله العلمي من البيت من غير أن يتخلى عن عمله، فحصل على شهادة الإعدادية ثم الثانوية العامة "الفرع العلمي"، وثم درس القانون في جامعة دمشق، وتابع حتى حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية.
يقول عباس لمجلة الرجل: "لقد كانت المدارس بالنسبة لشعبنا هي السبيل الوحيد الذي يزوّدنا بالسلاح، لمواجهة الحياة، لأننا لا نملك أرضاً ولا صناعة ولا تجارة، فليس أمامنا إلا أن ننهل من مناهل العلم لنواجه أعباء الحياة".
ويستخلص من واقع معاناته ما دفعه للقول: "لا يعرف قيمة الوطن إلا من فقده، لأن الوطن ليس أرضاً وبيتاً وحديقة وعملاً، الوطن حياة وانتماء وهوية وأمانً".
بعد حصوله على شهادة الاعدادية انتقل عباس إلى التدريس، فعمل مدرساً في بلدة "القطيفة" الابتدائية بريف دمشق، وحصل على راتب مئة وستاً وعشرين ليرة ونصف الليرة، يقول عباس: "كان "مبلغاَ كافياً في ذلك الوقت ليعيش منه الإنسان، ويقدم لعائلته منه مبلغاً محترماً يساعدها على سدّ جانب من مصاريفها".
انخرط عباس في العمل السياسي الوطني منذ مطلع شبابه، ولأنه كان ممنوعاً على الفلسطيني أن يمارس أي نشاط سياسي، اتجه مع بعض الأصدقاء إلى العمل السري، وأسسوا أول مجموعة فلسطينية عام 1954 في دمشق، واتحدوا مع مجموعات وطنية تكونت في دول أخرى، وتشكلت على إثرها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي أعلنت انطلاقتها عام 1965، بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات.
انتقل عباس في عـام 1957 للعمـل في وزارة التربيـة والتعليـم القَطَرِيـة، مديـراً لشـؤون الموظفيـن، زار خلالهـا الضفـة الغربيـة وقطـاع غـزة مرات عـدة، لاختيـار معلميـن وموظفيـن للعمـل في قطـر.
تزوج محمود عباس من أمينة عباس في 1958، ورزق بثلاثة أولاد هم مازن وياسر وطارق، إلا أن القدر اختطف ابنه مازن عام 2002، بسبب نوبة قلبية، بينما ياسر وطارق يملكان عدداً من الشركات والمشاريع، ويصنفان رجليّ أعمال.
يقرّ عباس في حديثه للرجل، أنه وبسبب انشغاله الدائم بين الوظيفة والعمل الوطني، تولت زوجته تربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة صالحة.
ويكشف بأن مسيرة حياته الذاتية اختلطت بحياته العامة، إلى درجة التطابق والتكامل، يقول: "لم أشعر في حياتي قط، أن لي حياة خاصة أمارسها وأعيشها، وعيت على مأساة اللجوء، وكرسنا أعمارنا كلها للثورة منذ مطلع الستينيات، لم يكن بإمكاننا ان نعيش حياة أسرية أو عائلية كباقي البشر". ويصف ما عاشه من حياة بأنه "أشبه بالسجن، إذا لم تكن سجناً حقيقياً، وعزلنا فيها عن حياة المجتمع العادية".
كان عباس يحلم بدراسة الهندسة، لكنه لم يتمكن من تحقيق حلمه، لأن "هذه الدراسة بحاجة إلى تفرغ ومصاريف، وهذا يعني أنني سأخسر راتبي وأحمّل أهلي عبئاً لا قبل لهم به" ويضيف: "ولكن بحمد الله، حققتها بأخي وبأبنائي وأبناء إخوتي، حتى أصبح في عائلتنا الصغيرة أكثر من خمسة عشر مهندساً".
أمنية أخرى لم يكتب لها التحقق؛ يروي عباس: "حين كنت طالباً في كلية الحقوق، شعرت بأن في داخلي حساً فنياً يدعوني إلى أن أدرس الموسيقى، وبدأت فعلاً في تلقي بعض الدروس الخصوصية، إلا أن والدي، رحمه الله، حين لاحظ وجود عود في البيت، ثارت ثائرته وعنّفني، فصرفت النظر عن الموضوع".
رغم انخراطه في مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني، ودوره القيادي، ألف محمود عباس ما يزيد على 60 كتاباً، تحدث فيها عن الهجرة اليهودية وناقش النظرة العربية لإسرائيل، والمسيرة السياسية في الشرق الأوسط، ومباحثات السلام مع إسرائيل واتفاق أوسلو.