لن يستطيع أي أحد أو أي كائن في هذه الدنيا، الهرب من الموت، فهو مصيرنا المحتوم حتى ولو كنا في "بروج مشيدة"، وهو العبرة الأخيرة والأكبر في هذه الحياة، ولطالما كان الأحياء، يعتبرون عند رؤية الموتى، أو عند المرور بجانب إحدى المقابر، فشكل القبر وشاهدته، كفيلان أن يردونا من انشغال الدنيا، للتفكر أكثر بهذا المصير، وما قد تقدمه من أعمال.
لكن أهالي مدينة "تستور" الواقعة في ولاية "باجة" شمال غربي تونس، أخذوا الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حيث أنهم شيدوا مقبرة للذين لا يزالون على قيد الحياة، انطلاقاً من عادات وممارسات أندلسية قديمة، فأهالي هذه المدينة يرون أنها نابعة من أصل التعاليم الإسلامية الحنيفة من جهة، ومن جهة أخرى، يعدّونها دليلاً على استعدادهم للموت في أي وقت.
وتقع هذه المقبرة الفريدة من نوعها، والمخصصة للأشخاص الأحياء، في ساحة النّارنج" أو ساحة "برتقال إشبيليا" المعروفة بقدم تاريخها العريق، وهي مقبرة قديمة تتميز بقبورها الفارغة، ويقول رئيس جمعية صيانة مدينة تستور الرجل الستيني رشيد السوسي في لقاء معه لوسائل الإعلام حول هذه العادة: "نحن الأشخاص الوحيدون الذين نختار أماكن قبورنا، ونعلم تماماً أين سندفن بعد وفاتنا، ونحن بهذه العادة نعبّر عن استعدادنا للموت في أيّ وقت، فهذا "المنزول" يذكّرني دائماً بالآخرة، وبأن أعمل صالحاً لملاقاة ربّي".
ويتابع السوسي الذي يظل دائم التواجد في هذه المقبرة الفريدة، وغالباً ما يكون حاملاً عدداً من المخطوطات والكتب التي يرجع إليها بين الحين والآخر، عندما يتحدث للناس عن تاريخ المنطقة التي كانت تسمى في الرومانية القديمة "تكلا"، مشيراً بيديه صوب الحيّ الذي يسكن فيه قائلاً: "هناك منزلي وهنا مَنزُولي"، والمنزول هو القبر الفارغ غير المسكون.
وأوضح السوسي أن عادة تجهيز القبور للأحياء قبل وفاتهم، انتشرت قديماً بين جميع السكّان من عرب وأندلسيّين، وممن بقي من هناك من العائلات التركيّة، حتى امتزجت عاداتهم وثقافاتهم ببعضها البعض، مكوّنة خليطاً ثقافياً ومجتمعياً أضاف لمدينة "تستور" التونسية خاصية ديمغرافيّة فريدة، تميزت بها عن باقي المدن الأندلسيّة.
أما فيما يخص تاريخ هذه العادة وأصل نشأتها، فيقول السوسي، أن الحكايات المتواترة، تشير إلى أن النساء الواتي تم التنكيل بأزواجهن وأبنائهن عقب سقوط مملكة "غرناطة" خلال العام 1492، مُتّن من القهر على عائلاتهن، ويُقال بأن جثثهن ظلت أياماً طويلة بدون دفن، وبسبب ذلك ظهرت هذه العادة بين النساء والرجال الذين ظلوا على قيد الحياة في المنطقة.
وتابع السوسي، بأن الدين الإسلامي الحنيف، كان قد حثّ المسلمين على إكرام موتاهم بدفنهم، ما عزز ظهور هذه العادة بشكل أقوى، حتى إذا ما مات أحد الأشخاص، يكون قبره جاهز ليدفن فيه، ولا تتكرر مآساة النساء في القصص القديمة، الذين متّن قهراً ولم يجدن من يدفنهن، بالإضافة إلى أنه في الظروف المناخية -خاصة في فصل الشتاء -، يتطلب حفر القبور وقتاً طويلاً، ولذا يمثل "المنزول" الحل الأنسب عندما تسوء الأحوال الجوية.
أما المسؤول عن هذه المقبرة الغريبة، عبد العزيز الهمامي، فهو يؤكد ما سبق حول هذه العادة الأندلسية القديمة، مُشيراً إلى أنه من الضروري الإهتمام بـ"دار الممات"، كما يهتم الناس تماماً بـ"دار الحياة"، وهذه العادة خير دليل على هذا الأمر، كما أن الهمامي الذي يبني القبور الفارغة بيديه، يقوم غالباً بالتفنن من خلال الزخرفة بناء القبور على الطريقة الأندلسية القديمة.
ومن الجدير بالذكر، إلى أن هجرة الأندلسيين، أو ما كانوا يعرفون بـ"الموريسكيين" إلى بلاد المغرب العربي من المغرب والجزائر وتونس، كان لها ثلاث مراحل توزعت على القرون الـ13 والـ15 والـ17 الميلادية، وبلغ عدد الوافدين منهم إلى تونس فقط في القرن الـ17 أكثر من 80 ألف مهاجر، وأغلب الـ"موريسكيين" تعود أصولهم إلى مسلمي شمال إفريقيا، الذين صاحب بعضهم "طارق بن زياد" عند فتحه لإسبانيا.
ولذلك أمر "فيليب الثالث" ملك إسبانيا خلال العام 1609، بعد إعادة سيطرة الإسبان على السلطة، نظراً لضعف سلطة المسلمين في ذلك الزمان، بتهجير كل الـ"موريسكيين" الذين لم يعتنقوا المسيحية، فسكنوا شمال إفريقيا وأقاموا مدينة "تستور" في ولاية باجة شمال غربي تونس.