لما رن هاتفه لإعلامه بأنه هو الفائز في مسابقة أفضل خباز فرنسي، وأن لجنة التحكيم منحته «الجائزة الكبرى» شكر «رضا خذر» الله، وعادت إليه لحظتها ذكرى والدته فترحم على روحها، إذ كان قد هاجر وهو في الخامسة عشرة من عمره، عندما أرسله والده عام 1986 ليشتغل مع شقيقه الأكبر علي في المخبز الذي يملكه في باريس. بكت أمه وهي تودع ابنها الصغير الغض، وتدعو له بالتوفيق والنجاح في بلاد الغربة.
اشتغل الشاب في مخبز أخيه ليل نهار من دون توقيت محدد، أو أيام إجازات دورية، تحمل العناء وفكر في العودة إلى بلاده، وهو يتذكر تلك الأيام قائلاً: «لم أحب فرنسا في بداية هجرتي إليها؛ فقد أحسست أن بردها لا يطاق مقارنة بطقس تونس المشمس».
ولد «رضا» وترعرع في عائلة تشتغل بالفلاحة والزراعة، وهو يؤكد أن سر إتقانه في إعداد الخبز يعود الفضل الكبير فيه إلى أمه، فمنذ أن فتح عينيه على هذه الدّنيا وجد أمّه، كأكثر نساء تونس في تلك الأيام، تستيقظ قبل موعد صلاة الفجر، وبعد صلاتها تتولّى إعداد الخبز، وتتولّى «تحريك» الدّقيق بيديها مع إضافة الماء والملح، ثمّ تعجنه بيدها حتّى تشعر بأنّه استوى، ثمّ تقسّم العجين أقراصاً أقراصاً، وتضعها بعد ذلك تحت صينيّة مدّة من الزّمن في انتظار أن يختمر.
ورغم أن «رضا» يملك منذ سبع سنوات مخبزه الخاص في الدائرة الرابعة عشرة بباريس، والتي تتوافر فيها كل الآلات العصرية إلا أنه حافظ على عادة أمه في إعداد أقراص العجين بيديه، وتركها 24 ساعة قبل الدفع بها إلى الفرن، وهذا أحد أسرار «رضا» في إعداد خبز له نكهة ومذاق خاص، علماً بأن من بين مقاييس الاختيار لأفضل خباز فرنسي رائحة الرغيف ولونه ومذاقه وشكله. ويؤكد «رضا» أنه يترك العجين في الفرن لمدة 22 دقيقة بالضبط، وهذا التوقيت له دور في نكهة الرغيف ولونه ومذاقه.
نجومية
إن «الباغيت» هي مفخرة وطنية فرنسية، فهي رغيف فرنسي أصيل، طوله بين 55 و65 سنتيمتراً، ووزنه بين 250 و300 غرام، والملح يكون فيه بنسبة 18 غراماً للكيلوغرام الواحد من العجين، وليس أمراً هيناً ومتاحاً أن يبرع غير الفرنسيين في إعداده، لذلك فإن فوز تونسي بالجائزة الكبرى لأفضل خباز فرنسي صنع الحدث وأصبح «رضا» نجماً في فرنسا بأكملها، وهو المهاجر الذي جاء إلى فرنسا شاباً مراهقاً، لا يتقن تركيب جملة واحدة بلغة فرنسية سليمة.
ولأن العرف الفرنسي جرى بأن يكون الفائز بالجائزة الكبرى لمسابقة أفضل خباز هو الممول الرسمي للرئيس الفرنسي بالخبز يومياً، ولمدة عام كامل، فإن «رضا» لم يخف فخره بهذا الامتياز متسائلاً: «ولكن كيف سأدخل كل فجر يوم قصر الإليزيه؟ وكم من رغيف سأعده للرئيس؟».
من الرابعة فجراً إلى التاسعة ليلاً
تسلم «رضا خذر» جائزته من يدي «برتران دي لانوييه» عمدة باريس في حفل رسمي. ومن المصادفات الجميلة أن عمدة باريس هو أيضاً من أصل تونسي، فقد ولد في مدينة «بنزرت»، 60 كم شمالي تونس العاصمة، وغادرها لما بلغ السادسة عشرة من عمره، وأعلن رضا أن الجائزة المالية التي تسلمها من غرفة الخبازين الفرنسيين سيوزعها بالتساوي على العاملين في مخبزه، وعددهم 11 فرداً، من بينهم شقيقه الأصغر.
ومنذ الإعلان عن فوز رضا بالجائزة الكبرى تضاعف الطلب على خبزه ثلاث مرات من الزبائن. يقول «رضا»: «يمكن لأي شخص النجاح في العمل والحياة إذا اتسم بالجدية»، وفعلاً فهو يشتغل يومياً من الرابعة فجراً إلى التاسعة ليلاً، ولا يتمتع بإجازة سنوية إلا مرتين فقط في العام، لمدة خمسة أيام كل مرة، ويداعبه الحلم بأن تكون له في بلاده تونس سلسلة من المخابز.
قلب رحيم
و«رضا» بقي متمسكاً بهويته العربية الإسلامية مؤكداً: «أنا مسلم، وأصوم شهر رمضان، وأعود بانتظام إلى تونس، وأساعد أخواتي وإخوتي الذين بقوا في تونس بعد وفاة الوالدين، وأنا حريص على زيارة قبر أمي وقراءة فاتحة الكتاب ترحماً على روحها الطاهرة».
«رضا» له قلب رحيم، فكل يوم عند ساعة إغلاق محله يحرص على وضع كيس أو اثنين مملوءين بالخبز؛ صدقة منه لفقراء الحي.
«رضا» متزوج من الفرنسية «إيزابيل» التي تعمل في أحد المستشفيات الباريسية، وتساعد زوجها في عمله. ولهما ابنة وحيدة «سارة» وعمرها سبعة عشر عاماً.
الجدير بالذكر أن تونسياً آخر واسمه «أنيس بوعبسة» وهو مهاجر أصيل بمدينة القيروان- سبق له عام 2008 أن فاز بالجائزة نفسها، وأطعم الرئيس السابق «نيكولا ساركوزي» لمدة عام من خبزه.
وإذا مررت يوماً في باريس يمكن لك أن تتذوق رغيفاً أو سندويتشاً أو قطعة حلويات من مخبز «رضا» في شارع «ريمون لوسورون» بالدائرة الرابعة عشرة.