لم يكن التصفيق المدوّي والذي استمرّ لمدّة 15 دقيقة لفيلم "كفرناحوم" في مهرجان كان السينمائي مبالغاً به، فمن يتابع الفيلم، الحائز على جائزة التحكيم في الدورة 71 من المهرجان، يخرج مصفقاً ولو افتراضياً لما أبدعته عدسة المخرجة نادين لبكي في تجسيد واقع يجاور واقعَنا، ولا يشبهه بشيء.
الفيلم الذي رفع الصناعة السينمائية اللّبنانية إلى مصاف العالمية و أعْلَى سقف المنافسة، ينقلنا من أبراجنا العاجية للعيش في أحياء المعوزين، حيث الفقر والذلّ والجوع والجهل والإجرام والقذارة، أحياء لو صودِف أن مررنا بها في أيامنا العادية لأقفلنا أنوفنا منعاً لتسرّب الرائحة، وربما بفعلتِنا نشيح عيوننا ونصرف أبصارنا عن كلَّ هذه البشاعة كي لا يُخدَش احساسُنا وإدراكُنا!... النتانة في أنانيتنا وإنسانيتنا لا في تلك الأحياء.
يروي "كفرناحوم" قصّة طفل يدعى "زين الرافعي"، ذاق مرارة فقر مدقع حتى تورّط بجريمة طعنٍ، وآلت به الصِعابُ إلى خلف القضبان.
زين ينام مع إخوته الكُثر في مكان ضيّق يشبه الحظيرة، يحرص عليهم أكثر من الأهل الغارقين في جهلهم، جميعهم غير مدرجين في السجّل الرسمي للدولة، يقوم في عمل مضنٍ رغم صغر سنّه (12 عاماً)، يحلم بالالتحاق بالمدرسة، فهو ينظر إلى الحافلة التي تقل التلاميذ بتَوقٍ وحسرة، يحنّ إلى أخته سحر (11 عاما) ويتحمّل مسؤوليتها كما لو كان أمّها، يجهدُ عبثاً لمنع زواجها، لكنّ مُكر القدر يتفوّق.
نعايش يومياته، في اختصار لحياة فئة واسعة تعيش على هامش المجتمع وتتحوّل إلى عالة عليه... وبعد كلّ ما قاساه، يضيق الولدُ ذرعاً ويقرّر أن ينتقم ممن كان السبب، فيرفع شكوى على أهله لأنهم تسبّبوا بمجيئه إلى هذا العالم المليء بالفواجع... "بدي إشتكي على أهلي لأنّ خلّفوني" يقول زين للقاضي في غصّة مؤلمة.
على خلاف معظم الأفلام السينمائية اللّبنانيّة – كي لا نقول جميعها- خرج الفيلم من قنّينة الحرب الأهليه التي تلاحقنا ندوبها وتؤطر إنجازاتنا، حتى أصبحت شرطاً لنجاح أي عملٍ فنيّ. لم يقع كفرناحوم بهذا "الكليشيه".
البؤس، الأطفال المشردون، عمالة الأولاد وتعنيفهم، التسرّب من المدرسة، اللّاجئون السوريون، التجارة بالبشر، زواج القاصرات، البدون (من لا يملكون أوراقاً ثبوتية)، وضع العاملات الأجانب في لبنان، حال السجون... كلّها شوائب نجحت نادين في نقلها بإتقانٍ مع مجموعة ممن لم يسبق لهم أن اختبروا التمثيل، في أداءٍ عفوّي تفوّق على معظم الأسماء اللّامعة التي سطعت في الساحة التمثيلية.
ممثلو الفيلم لم يعيشوا أدوارهم التمثيلية بل مثّلوا عيشَهم... وكأنهم لا يمثلون، هم فقط يعيشون والكاميرا تلاحقهم خلسةً، في عملٍ يصحّ وصفه بالوثائقي أو بالرسالة.
يحمل الفيلم اسم ضيعة تاريخية في فلسطين المحتلّة، وهي في المعنى الأدبي وفي الروايات العالمية تُستخدم للدلالة على الخراب والجحيم، يحدّثك عن واقع تعرفه ربما، ولكن أن تُنقل لك تفاصيلُه المأساوية بهذه الاحترافية، أمرٌ يجعلكَ تغادر صالة السينما باكياً شارداً ومنتاباً بموزاييك من المشاعر المتناقضة، بين الفخر والأسى والحزن والحقد والغضب والحمد والإيمان ... والتشكيك!.
نادين لبكي لـ"سيدتي نت": فيلم "كفرناحوم" غيّر حياتي وهذا أجمل ما حصل فيه
لمشاهدة أجمل صور المشاهير زوروا أنستغرام سيدتي