لا يوجد أحد يستطيع معرفة حدود الإنسان، وما هي الأمور التي من الممكن أن نفعلها، وربما يعتبر هذا واحداً من أهم الأشياء التي جعلتنا نحكم كوكب الأرض، وعندما قال الحكماء قديماً أنه "لا يمكن الحكم على الشخص من هيئته الخارجية"، كانوا واثقين تماماً من كلامهم هذا، إذ أننا لا نستطيع أن نعرف مدى القدرات التي تختبئ خلف هذه الهيئة التي قد تكون بسيطة، أو وراء هذا الجسد الذي قد يكون نحيلاً، فهناك – أي في أعماقنا – توجد روح صلبة، لا يمكن توقع ما يمكنها فعله.
ما ذكرناه سابقاً، هو إيجاز لقصة الرجل الهندي "جاداف مولاي باينغ"، الذي يعيش في جزيرة "ماجولي"، في نهر "براهمابوترا" في ولاية "أسام" النائية في شمال شرقي الهند، والذي كان شاهداً على كل التغيرات التي مرّ بها – مسقط رأسه - قبل أن يتحول من "جنّـة" تغطيها الأشجار وأنواع المختلفة، إلى صحراء قاحلة، لا يُمكن العيش فيه.
من هنا بدأت القصة ..
بدأت حكاية "جاداف مولاي باينغ"، قبل قرابة الـ40 عاماً، حين كانت جزيرة "ماجولي" عبارة عن جنة زاهرة بالحياة النباتية والبرية بكل أشكالها، وقبل أن تتسبب الفيضانات التي ضربتها خلال العام 1979، بالإضافة إلى قيام السكان بالقطع الفوضوي والواسع للأشجار في تلك الجزيرة النائية، بتحويلها إلى صحراء قاحلة يأكلها الجفاف.
في ذلك الوقت، قرر "باينغ"، الذي كان شاباً مراهقاً حينها لم يتجاوز الـ16 عاماً، أن ينقذ موطنه - الجزيرة التي يحب -، ومنذ ذلك الحين شرع بمفرده في أن يعيد زراعة الغابة التي كانت قبل الفيضانات والقطع الجائر للأشجار فيها، وبدأ خطواته الأولى بزرع البذور بجوار مرتفع رملي مهجور قريب من مكان عيشه في الجزيرة.
وطوال ما يقارب الـ 40 عاماً من حياته، حمل الرجل الهندي على عاتقه أن يقوم في كل يوم، بزراعة عدد من بذور الأشجار في جزيرة "ماجولي"، وتمكن بمفرده أن يعيد خلق نظام بيئي جديد بالكامل خلال هذه المدة، وظل "باينغ" يمتد في حلمه حتى وصل الآن إلى أن يعيد زراعة غابة كاملة تقارب مساحتها الـ10 كيلومترات مربعة، وهو ضعف حجم حديقة الـ"سنترال بارك" الشهيرة في مدينة نيويورك الأمريكية بحوالي الضعفين.
مع هذا النجاح والعمل المتواصل، تمكن "باينغ" من إعادة الكثير من أشكال الحياة البرية لغابته التي زرعها بيديه، ومن الأمور المثيرة للدهشة، أنه في الوقت الحاضر يعيش في هذه الغابة قطيع من الفيلة يتألف مما يزيد عن 115 فيلاً، كما أنه قد عادت "النمور البنغالية" الشهيرة للعيش من جديد في غابة "باينغ"، إلى جانب الغزلان ووحيد القرن وأنواع مختلفة وعديدة من الحيوانات.
اللحظات المؤثرة التي عاشها "باينغ"
أولى اللحظات التي تركت أثراً غائراً وكبيراً في نفس الرجل الهندي "جاداف مولاي باينغ"، الذي يدخل الآن أبواب عقده الخامس من العمر، كانت عندما انتهى الفيضان الكبير في العام 1979، وعثر على العديد من جثث الثعابين الميتة، حيث كان في لقاء سابق له مع صحيفة الـ"تايمز" الهندية قد وصف المشهد قائلاً: "ماتت الثعابين جراء الحرارة الشديدة، ودون أي ظل شجرة من الممكن أن يحميها من هذه الحرارة، وفي ذلك اليوم جلست أبكي بشدة على أجسامها الخالية من الحياة، كان الأمر يشبه المذبحة".
ويضيف "باينغ" في حديثه للصحيفة الهندية: "ذهبت وحذرت إدارة الغابات، وسألتهم عما إذا كان بإمكانهم زراعة الأشجار هناك، فقالوا أنه لا شيء يمكنه النمو في هذه المنطقة، وبدلًا من ذلك، طلبوا مني محاولة زراعة الـ(بامبو) أو الخيزران، وكان الأمر مؤلماً للغاية بالنسبة لي، لذا فعلت ذلك بنفسي، لم يكن هناك أحد لمساعدتي حيث لم يكن هناك أحد مهتم بالأمر".
هكذا علم الناس بقصة "باينغ"
وعلى الرغم من أن "باينغ" ظل قرابة الـ 40 عاماً يقوم بالعمل العظيم الذي أنجزه – وما يزال يقوم به – إلا أن قصته المُلهمة لم تظهر إلى الإعلام ولم يعرفها الناس، سوى قبل سنوات قليلة، وتحديداً خلال العام 2007، عندما اكتشف أمره الصحفي الهندي الشهير بحبه وشغفه للطبيعة والحياة البرية "جيتو كاليتا"، عندما كان يمر برحلة قريبة من جزيرة "مالوجي"، وفي ذلك الوقت، قام "كاليتا" بإشهار قصة هذا البطل الهندي، الذي فعل المستحيل لأجل المكان الذي يعيش فيه، ومنذ ذلك الوقت عرف العالم كله بقصة "باينغ".
بعد انتشار قصة "باينغ" في وسائل الإعلام العالمية المختلفة، قامت الحكومة الهندية بتكريمه خلال العام 2015، وذلك لدوره الكبير وجهده الغير مألوف في حماية البيئة والحفاظ على الطبيعة، حيث أصبح "باينغ"، أحد أبرز الأمثلة التي يضربها علماء البيئة في الهند، للتشجيع على حماية الأشجار والحيوانات من الانقراض. وكان "باينغ" الذي يعمل في بيع حليب الأبقار للقرى المجاورة، قد أكد أنه سيستمر في زراعة شتلات وبذور الأشجار حتى "أنفاسه الأخيرة".