لا يمكن أن تمحو السنوات ذكرى أشخاص ضحوا بأرواحهم في سبيل إنقاذ أرواح أخرى لا تربطهم بهم صلة رحم، ولا انتماء ديني أو طائفي إلا أنّ الجانب الإنساني لديهم كان هو الدافع الوحيد لتقديم يد المساعدة في أحنك الظروف، وأخطر المواقف، وهذا تحديدًا ما زرعه الله في قلب وروح الباكستاني "فرمان علي خان"؛ ففي عام 1430 هـ تمكن الشهيد «فارمان» من إنقاذ 14 شخصًا من الغرق خلال السيول التي اجتاحت محافظة جدة في ذلك العام قبل أن تجرفه السيول ويستشهد بعد أن نفذ عمليات إنقاذ بطولية، وتم على إثر ذلك منح الشهيد "فرمان علي خان" وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وذلك بعد موافقة الملك عبد الله بن عبد العزيز- رحمه الله –.
واليوم يقدم الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع _حفظه الله_ تكريمًا آخر للشهيد البطل "فارمان" وذلك من خلال إنشاء مركز صحي باسمه – رحمه الله – وذلك في إقليم خيبر بختونخواه، الإقليم الذي نشأ وترعرع فيه الشهيد.
يشار إلى أنّ هذا التوجيه صدر أثناء زيارة ولي العهد _حفظه الله_ إلى جمهورية باكستان الإسلامية، مما يبرز الاهتمام والتقدير الشخصي للأمير الإنسان بأسرة "فرمان خان" نظير ما قدم من عمل بطولي مشرف، وتأكيدًا على ما يربط البلدين الشقيقين من علاقات أخوية وإنسانية فريدة على كافة المستويات.
كما يعكس التوجيه الكريم امتداد واهتمام ولي العهد بأسرة فرمان بشكل مباشر، وأهالي الإقليم بشكل غير مباشر.
تجدر الإشارة إلى أنّ الشهيد «فرمان علي خان» أصبح ذائع الصيت في محافظة جدة، وربما في مختلف مدن المملكة، إذ تناقل المجتمع بشرائحه كافة القصة الإنسانية التي كان بطلها، كما أنه كرم من جهات عدة، وقدمت جامعة الملك سعود منحة دراسية كاملة لشقيقه لدراسة اللغة في معهد اللغة العربية، وذلك قبل أن يلتحق بكليات الجامعة المختلفة. كما استضاف برنامج خادم الحرمين الشريفين أسرته لتأدية فريضة الحج، فيما سمت أمانة جدة أحد شوارع المحافظة باسمه.
وقد أعاد المغردون على «تويتر» ذكرى الشهيد خلال هذه الفترة؛ مسترجعين ذكرى إغلاقه بقالة «الشفاء» التي كان يعمل بها في وسط حي الحرازات لينتقل للعمل كمنقذ في وسط السيل الهادر، ونجح حينها في إنقاذ عددٍ من العمالة أولاً، ثم واصل دوره البطولي بإنقاذ محاصرين في إحدى السيارات، بعد أن ربطها بالحبل إلى أحد الجدران الخرسانية وأخرج من فيها.
وقبل أن يذهب للاستراحة جراء تعب الساعات المتواصلة أثارته استغاثة أحد المحاصرين، وأصر على إخراجه ولكن السيل الذي بلغ ارتفاعًا تاريخيًّا غير مسبوق حمل البطل "فرمان" إلى الدار الآخرة ومعه دعوات الآلاف بالرحمة وحسنات الأنفس الـ 14 التي أنقذها من السيل وأعادها للحياة مرة أخرى.
يذكر أنّ "فرمان" ترك وراءه ثلاث بنات: زبيدة، ومديحة، وجويرية، والأخيرة لم يرها لأنه لم ينزل إجازة إلى قريته الصغيرة منذ فترة طويلة، وكان يعتزم السفر إليهم إلا أن القدر كان أسرع منه، وتتكون أسرة الشهيد من والده: الشيخ عمر رحمن، وله أربعة إخوة، وخمس أخوات.
رحلته نحو الموت
يحكي صديق "فرمان" المقرب (شاه خان) أنه تلقى من "فرمان" اتصالاً قبل موته، وأنه طلب منه عدم الخروج من البيت بسبب مياه السيل التي غمرت شوارع الحي الداخلية وجرفت السيارات في طريق مكة جدة القديم، وأنّ "فرمان" أوصاه في آخر اتصال بينهما بأن يذهب إلى دار ابن عمه للاحتماء من السيل والاحتفاظ بالدواء الذي اشتراه لوالدته في باكستان وإيصاله لها وكأنه كان يشعر بأنه لن يتمكن من إيصال الدواء.
وقال «شاه» أنه ترجّى «فرمان» في ذلك الوقت أن يخرج من مياه السيل لكنه أصر على مواصلة إنقاذ المحتجزين.
وقال مقربون من «فرمان»:" شيء غريب وكأنه على موعد مع الموت، فأراد أن يستعد للقياه ويكلل حياته بمحاسن الأعمال، في ذلك اليوم المهول؛ حيث ظل يوم استشهاده مستيقظًا طوال الليل يقرأ القرآن الكريم، وقبيل آذان الفجر خرج مسرعًا إلى المسجد المجاور للبقالة التي يعمل بها كبائع، وبعد الصلاة عاد إلى البيت وكان في قمة النشاط والانشراح والبشاشة، مستنير الوجه يكثر من ذكر الله، يداعب أصدقاءه، وكأنه يودعهم".
مؤكدين بأنه لم تكن له أي مشاكل رغم أنه أعزب في بلاد الغربة، وكان كثير الصلاة والذكر، ومن المواظبين على الصلوات جماعة في وقتها، إضافة إلى مساعدة كل من يريد الاقتراض من البقالة من المعسرين والفقراء من سكان الحي.