هي اللحظة الحاسمة، اللحظة الأجمل على الإطلاق من أي شيء آخر في ذلك اليوم، اللحظة التي تبدأ الضجة في قاعة المسرح بالاختفاء شيئاً فشيئاً، والأضواء بالخفوت كأنها تنسحب من عالم الواقع لتترك المكان لعالم الخيال، حتى تصبح العتمة هي سيدة المكان، قبل أن ينطلق أول أمر إضاءة يخبر الحاضرين أن العرض المسرحي قد بدأ. هنا دون أي إدراك منك، تشعر بأن الحماسة تقفز من تجويفك الصدري، وأنك على بعد ثوانٍ قليلة لتبتعد في عالم خيالي.. الآن بدأ العرض المسرحي.
هناك.. وبعد أول أمر إضاءة، وأول مونولوج وديالوج وأول حركة ممثل، تبدأ حياة جديدة من الوجوه الضاحكة والعابسة. هناك على خشبة عمرها آلاف السنوات، لا يشغل بالك سوى كمّ هائل من الجمال المسرحي، ومن العوالم التي لن تراها سوى.. هناك.
اخفضوا أصواتكم، وابدؤوا بسحب الإضاءة العامة من غرفكم قليلاً قليلاً، واستمتعوا بأهازيج الحياة التي يطلقها «اليوم العالمي للمسرح».
القصة من بدايتها..
هو «أبوالفنون» وكبيرها، ومنذ أول مخطوط لمسرحية مكتشفة، كانت قد كُتبت قبل نحو 2000 عام قبل الميلاد في الحضارة المصرية القديمة، والمسرح يحتفل بنا في كل يوم. ونحن نحتفل فيه في 27 آذار / مارس منذ 57 عاماً. بدأت الحكاية في العام 1961، عندما عقد المعهد الدولي للمسرح مؤتمره التاسع في العاصمة النمساوية «فيينا»، وتم حينها تكليف «المركز الفنلندي» التابع للمعھد، بأن يقوم بتحديد تاريخ يتم الاحتفال فيه بـ«أبوالفنون».
في العام التالي من ذلك المؤتمر، تحديداً في العام 1962، تم اختيار تاريخ 27 آذار / مارس ليكون أول احتفال بهذا اليوم، وتم اعتماد التاريخ نفسه ليكون «يوماً عالمياً للمسرح» يحتفل فيه العالم من كل مكان. حيث تزامن هذا الاحتفال الأول مع افتتاح «مسرح الأمم» في العاصمة الفرنسية باريس، بالتاريخ نفسه من ذلك العام، وكان هذا أمر متفق عليه تماماً، ولم يكن وليد الصدفة. فكان الاحتفال بهذه المناسبة هو يوم ولادة أحد أشهر وأهم المسارح العالمية على الإطلاق.
هذا ما قاله المخرج الأردني غنام غنام..
«السيد النبيل»، هذا ما وصف به الفنان والكاتب والمخرج المسرحي الأردني غنام غنام المسرح، في حديثه لـ«سيدتي» عن اليوم العالمي للمسرح. لم يكتب غنام تصريحاً عابراً يقدم من خلاله تهنئة للمسرحيين بهذه المناسبة، بل كان يكتب قطعة من قلبه. كان يقدم لنا في أسطر قليلة ضجة هائلة من المشاعر التي عاشها وعايشها خلال عقود من عمله على خشبة المسرح.. فوضى الممثلين قبل الـ«بروفا»، أوامر الإضاءة التي لم تلامس رؤيته الإخراجية بعد، العمل على المونولوجات، المشاركات الجوائز الإخفاقات ولحظات المجد، ساعات الكتابة التي لا تنتهي والتفكير الذي لا يتوقف.
كل ذلك وضعه غنام دفعة واحدة، وكأنه على الخشبة بمنولوج طويل وقال: «هي صلاتي لهذا السيد النبيل التي أتلوها له دائماً. شكراً لك سيدي. يا منبع عذاباتي المقدسات، وسر بهجاتي النبيلات. ألمي لأنك جعلتني شفيفاً، وأملي لأنك جعلتني شغوفاً. وقسوتي لأنني أخاف عليك، وشجاعتي لأنني أخاف منك. واقترابي من البعيد وابتعادي عن القريب حين صرتَ بوصلتي، إيماني وضلالتي، غيّي ورشدي، قيدي وحريتي وقدري الذي جاء بي وذهبت به، حبيبي. شكراً أيها السيد النبيل، أيها المسرح».
من هناك.... إلى هنا
حركة تطور وابتكار مستمرة عاشها «أبوالفنون» خلال العقود الطويلة الماضية، فمن المدرسة السريالية، والمدرسة الوجودية، حتى مدرسة الـ«أتشرك»، والبريختية أو المسرح الملحمي، وصولاً إلى اللامعقول والعبث. ومذاهب مسرحية أخرى تعبر عن الحداثة وما بعد الحداثة. جميعها أعطت المسرح الحديث شكله الحالي، وفتحت أبواب التأويل والإبداع وخلق الجديد ليتم عرضها على الخشبة.. لكن الحكاية كانت قد بدأت قبل ذلك بكثير.
كل ما سبق –وهو فيض قليل من غيض- يرجع إلى آلاف السنوات السابقة، يرجع إلى حقب ما قبل الميلاد، عندما كان المسرح عن الإغريق/اليونانيين القدامى، حالة حياتية ويومية مرتبطة بشكل وثيق بالشعر وبطقوسهم الدينية. ومنذ أن انفصل اليوناني «ثسبس» عن الجماعات التي كانت تحتفل بالمسرح من خلال هذه الطقوس الدينية، ليلقي أول أناشيده لوحده، أصبح حينها «أول ممثل في التاريخ»، وكان ذلك خلال العام 535 قبل الميلاد.
بعد «ثسبس»، أتى شاعر ومسرحي يوناني آخر، وهو «أيسخولوس»، الشاعر التراجيدي الملحمي، الذي بدأ يُشكل الحالة المسرحية الحقيقية عندما أضاف ممثلاً ثانياً على خشبة المسرح، قبل أن يتطور الأمر أكثر ويضيف ممثلاً ثالثاً ورابعاً، وكان «أيسخولوس» قد كتب ما يقارب الـ90 عملاً مسرحياً في حياته. ليفتح الباب لمسرحيين إغريق آخرين، مثل «سوفوكليس» و«يوريبيديس» وهما من أهم رواد الكتابة المسرحية التراجيدية القدماء. ومن ثم «أريستوفان» الذي يعتبر من أوائل كُتّاب الكوميديا في التاريخ.
هذا ما قاله المخرج الأردني خالد الطريفي..
كبير المسرح الأردني وعميده، الفنان والمخرج المسرحي خالد الطريفي، كان له حديث طويل على باب السيد الكبير/المسرح. حديث باح به لـ«سيدتي» في يوم المسرح العالمي، حيث قال: «في يوم المسرح العالمي، سوف تفتح المسارح العامه أبوابها. وكذلك مسارح المحافظات على امتداد الوطن العربي البهي الجميل، ستفتح أبوابها هي الأخرى بعروضها المسرحية المتنوعه لجميع الناس، حتى يحتفلوا في «الفرجة المسرحية» في كل جبال عمّان ومسارحها الجديدة، مسارحها التي أنشأتها الدولة بمناسبة مرور 100 عام على تقديم أول عرض مسرحي أردني».
وتابع الـ«يابا» – كما يطيب للمسرحيين الشباب مناداته- حديثه قائلاً: «هذا ليس كل شيء، سيتم تكريم الكثير من الفنانين والفنانات المسرحيين، الذي أمضوا أعمارهم على خشبات المسارح. وسيطمئن الفنان المسرحي، حين يبدأ العمل بنظام صحي وضمان اجتماعي وتقاعدي للفنانين. وسيُعلن عن الميزانية المسرحية للعام الجديد، وسوف تستمر العروض المسرحية طوال العام في كل مدن المملكة».
أمنيات الطريفي، كانت كأنها منولوج لممثل قدير فوق خشبة مسرح الحياة، حيث تابع في القول: «سيعلن عن إطلاق (المسرح الوطني الأردني) وعن دعم لجميع الفرق المسرحية المحلية، وتشغيل كافة المسرحيين في مسارح عمان الجديدة. وسيفتتح المعهد العالي للفنون المسرحية التابع لوزارة الثقافة مع معهد الفنون الجميلة، وسيتم رفع مستواه العلمي والإداري والمالي أيضاً».
وأخيراً، وضع أبو المسرح الأردني أمنيته الأخيرة في يوم المسرح، وقال: «نعم.. اليوم سيكون يوم المسرح العالمي، هو يوم المسرح الوطني. وستشهد عمان الحبيبة إعلان عمان عاصمة للمسرح مدى الحياة... هذا ليس حلماً، ولكنه حقيقة أكيدة أضعها بين يدي وزير الثقافة الحبيب، وبين يدي الجهات الحكومية المختصة المسؤولة.. فالجمال يليق بشعبنا وعاصمته. والمسرح هو رحم الجمال وأمه وأبوه».
لأن المسرح «أبو الفنون».. لأنه يحتفل بنا في كل ساعة
من هناك.. من هذه الحقب الزمنية القديمة، ظهر المسرح ومشى بخطى واثقة ونبيلة إلى عصرنا الحديث، آخذاً بالتطور يوماً بعد يوم، وأخذنا معه إلى كل هذه العوالم التي لا تنتهي من الخيال. وعلى الرغم من أننا نحتفل فيه يوماً واحداً في العام، إلا أن هذا الكبير يحتفل فينا كل يوم. وكان المسرحي الإنجليزي الشهير ويليام شكسبير، قد قال يوماً ما: «الدنيا مسرح كبير، ونحن دمى ماريونيت».
كل عام والمسرح وجميع المسرحيين بكل خير وفرح.