ليس من الضروري أن تكون شاعراً أو رساماً، حتى تدرك أن هناك متعة استثنائية في الورود، وأن الورد –على اختلاف أنواعه وألوانه- يتعدى كونه حالة جمالية صنعتها الطبيعة بتأنٍ شديد. فهو روح الربيع والفرح الذي يهدينا إياه هذا الفصل بعد غيابه مضطراً في الأشهر السابقة. اليابانيون، يعرفون جيداً هذا الفرح، ومنذ مئات السنين يحتفلون به على طريقتهم. وفي كل عام ترتدي البلاد ثوباً ملوناً في كل أزقتها وشوارعها ومعالمها.
الـ«هـانـامـي».. احتفال الربيع بنا
البعض يعتبره «مهرجاناً»، والبعض الآخر يعتبره موسماً وعادة رسّخها اليابانيون في عاداتهم منذ قرون طويلة. وإن كان الأمر «مهرجاناً» أو «موسماً»، ففي هذه الفترة من العام نرى البلاد كما لا نراها في فترات أخرى. فمن اللحظة التي يعلن فيها الربيع أنه استيقظ من سباته وخرج إلى العالم حاملاً وروده في يديه على الأشجار، يبدأ موسم الـ«هـانـامـي» في البلاد؛ حيث يقوم جميع الناس بالخروج من منازلهم، وتأمل الورود والزهور في كل مكان عندما تتفتح للدفء.
الـ«هـانـامـي»، والتي تعني «مشاهدة الزهور» باللغة العربية، هي فترة بدء فصل الربيع القائمة من أواخر شهر آذار/مارس، وحتى بدايات ومنتصف شهر نيسان/أبريل من كل عام. وحين تسمع اليابانيين يرددونها، فهم على الأغلب يقصدون «زهور الكرز» على وجه التحديد -أو كما يطلق عليها باليابانية «ساكورا»- التي تكون قد أزهرت في مختلف أرجاء البلاد. والتي تشتهر بها اليابان تحديداً في كل العالم.
وفي هذه الفترة أيضاً من العام، تجد اليابانيين يحتفلون بالـ«هـانـامـي»، في الطرقات والساحات العامة، حيث يقضون معظم أوقاتهم في النهار، وهم يستظلون تحت الأشجار، لا يفوتون لحظات المتعة والتأمل في هذه الأزهار والورود التي بُثت فيها الحياة من جديد.
«هـانـامـي» في التاريخ
بحسب العديد من المصادر، فإن الاحتفال بموسم أو مهرجان الـ«هـانـامـي»، يعود إلى حقبة تاريخية هامة في البلاد، تسمى «فترة نارا»، وهي الفترة التي كانت مدينة «نارا» اليابانية التي تقع على جزيرة «هونشو»، تحتضن الإمبراطورية اليابانية. وامتدت هذه الحقبة ما بين العامين 710 – 784، وفي تلك الفترة كانت عائلة «تانغ» الصينية، تفرض هيمنتها على البلاد، وهي التي أدخلت عادة الاحتفال بالربيع إلى البلاد خلال تلك الفترة؛ إذ إنها عادة صينية في الأساس.
ولأن الـ«هـانـامـي»، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بزهر الكرز الـ«ساكورا»، الذي تشتهر اليابان به على نطاق واسع. فإن هذا الاحتفال يكون بمثابة إعلان عن بدء موسم الكرز. ويذكر المؤرخون أن اليابانيين القدامى، كانوا يعتقدون أن الأشجار تسكنها الأرواح. لذلك كانوا يقدمون لها القرابين بشكل مستمر ويضعونها تحتها. وخلال ما يُسمى «فترة هييآن»، التي استمرت ما بين الأعوام 794 - 1185، والتي اشتهرت بأن اليابان خلالها عاشت عهداً من الرخاء دام لقرابة الـ350 عاماً. قام الإمبراطور «ساغا»، بتحويل ما كان يقوم به اليابانيون، إلى «عيد للتأمل بالزهور».
البدايات الأولى لظهور الـ«هـانـامـي»..
خلال هذا العيد الذي اعتمده الإمبراطور «ساغا»، كان اليابانيون يرتدون ملابس خاصة حينها بهذه المناسبة، ويحتفلون بها عبر الجلوس تحت الأشجار المزهرة، واحتساء الشراب الياباني التقليدي الشهير الـ«ساكي». وخلال تلك الفترات، كتب الشعراء العديد من القصائد التي تتغنى وتصف أزهار الكرز المتفتحة، وتحكي عن الحياة الرائقة الجميلة التي كان يعيشها الناس خلال هذه الفترة من العام؛ حيث كانت هذه هي الطقوس الأولى لبداية الاحتفاء بالـ«هـانـامـي».
في الوقت الحاضر
رغم مرور كل هذه الحُقب التاريخية، وكل هذه القرون الطويلة على بدء الاحتفال بعيد الـ«هـانـامـي»، إلا أن اليابانيين وفي الألفية الثالثة من هذا العصر، لا يزالون مستمرين باحتفالاتهم بالربيع والورود. وحتى لو اختلفت بعض مظاهر هذه الاحتفالات، لكن الروح هي نفسها التي بدأها الإمبراطور «ساغا»، والتي كتب عنها الشعراء ورسمها الرسامون. فعند بدء الربيع، نجد مئات الآلاف من اليابانيين منتشرين بالشوارع والحدائق العامة والمعالم التاريخية. العائلات والأصدقاء والأحبة، يتشاركون روح هذا الموسم في كل نهار فيه، وحتى آخر الليل.