عاصمة النور والثقافة والأضواء باريس تبحث عن أطباء، عنوان غريب تصدر الصحف الأوروبية والعربية صباح اليوم، هل يعقل أن باريس تعاني نقصاً حاداً بعدد أطبائها؟ وكيف يمكن أن يأمن سائح على نفسه فيها في حال تعرضه لحالة صحية طارئة إن كانت تعاني عجزا صحياً من هذا النوع؟ لنعرف السبب.
تعيش باريس تحدياً من نوع خاص يجعل المنطقة الأثرية في فرنسا تبحث عن حل لمعضلة افتقارها للأطباء، وخصوصاً طب الاختصاص بسبب غلاء الإيجارات لفتح العيادات.
وتفتقر العديد من المناطق في ضواحي باريس على بعد بضعة كيلومترات من برج إيفل وكاتدرائية نوتردام، للأطباء في ظاهرة مستغربة في هذه المنطقة الأثرية والأكثر تعداداً بالسكان في فرنسا، والتي تتوقع السلطات تفاقمها.
اعتادت ديلولا العاملة المنزلية السابقة البالغة من العمر 66 عاماً والمقيمة في سين سان دوني في شمال باريس زيارة طبيب بسبب مشكلات في القلب، غير أنه تقاعد و«لم يحل أحد محله»، وقبل إيجاد مكان في مركز صحي، اضطرت للذهاب إلى قسم الطوارئ من أجل الخضوع لمعاينة بسيطة، مؤكدة “كنت أمضي طوال النهار”.
وتعد هذه المرأة واحدة من 4.4 ملايين نسمة في منطقة إيل دو فرانس (باريس وضواحيها) «لا يملكون أي نفاذ إلى طبيب عام كما يجب»، أي 37 بالمئة من سكان المنطقة، وفق ديدييه جافر المسؤول في الوكالة الإقليمية للصحة. وهذه المنطقة هي «المكان الذي يضم العدد الأكبر من الأطباء»، لكن «نسبة لعدد السكان، نحن أكبر صحراء طبية فرنسية» وفقاً لموقع «العرب».
وفقدت منطقة إيل دو فرانس في خلال عشر سنوات ألفي طبيب عام بعد أن كانت تزخر بالأطباء. وهذه الظاهرة، وفقاً لجافر «تشمل كل المهن في القطاع الصحي من ممرضين ومساعدي تمريض وأخصائيي أشعة».
ولفت رئيس الاتحاد الإقليمي لأخصائيي الصحة، برونو سيلبرمان، إلى أن 48 بالمئة من الأطباء العاملين بنظام التعاقد الحر هم فوق سن الستين، «ونصفهم من الأطباء العامين» وسيتقاعدون تالياً «في السنوات الخمسة المقبلة».
وقال ألكسندر غرونييه، المدير العام للاتحاد الإقليمي لأخصائيي الصحة، «لكل طبيب معالج في المعدل ما بين 1500 و2000 مريض في إيل دو فرانس».
وأضاف: «عندما يتقاعد الطبيب من دون حلول بديل محله، هذا العدد من الأشخاص يبحثون عن طبيب جديد بينهم ما بين 30 بالمئة إلى 40 بالمئة يعانون أمراضاً تسمى معقدة بما يشمل الأمراض المزمنة».
وفي سان دوني، أكثر المدن تعداداً بالسكان في سين سان دوني، سعى أطباء في 2011 إلى تغيير المعادلة من خلال إنشاء تعاونية صحية في المنطقة. وهم أرادوا من خلال ذلك «تلبية الحاجات الصحية في المنطقة وإقامة مؤسسة قادرة على استقطاب أطباء عامين».
وأوضحت آن غايل بروفوست: «لقد نجحت هذه الخطوة؛ إذ إن الأطباء الذين كانوا هنا في البداية بقوا جميعاً في المكان».
غير أن هذا «التصحر» الطبي آخذ في التوسع، ففي ظل الأعداد الكبيرة من الأطباء العامين الذين تفقدهم المنطقة، يعاني آخرون جرّاء الإرهاق المفرط في العمل. كما أن ثمة نقصاً في ذوي الاختصاصات الطبية، بما في ذلك تقويم النطق والطب الفيزيائي.
مغادرة الأطباء مشكلة كبرى
ومن بين الأسباب المقدمة لتفسير هذه الظاهرة: ظروف العمل الصعبة أحياناً، مع نشاط مكثف في منطقة مكتظة سكانياً يعاني بعض مرضاها أوضاعاً معيشية صعبة. ويضاف إلى ذلك غلاء السكن والنقل ما يدفع بعض المعالجين إلى المغادرة، فضلاً عن غلاء الإيجارات للأطباء الشباب الراغبين في الإفادة من عيادات لمزاولة المهنة.
وتستثمر الهيئات الطبية المحلية إضافة إلى التدابير المتخذة على المستوى الوطني، في إقامة مراكز طبية جديدة، وقد حاز 85 مشروعاً على دعم خلال السنتين الماضيتين في مقابل 15 مليون يورو. لكن، وبحسب سيلبرمان «لمواجهة التحدي يجب تدشين مركز طبي جديد كل أسبوع».
لكن، حتى حين تتوافر المراكز الطبية المطلوبة، يبقى استقطاب أطباء للعمل فيها مهمة صعبة، فعلى سبيل المثال، تبحث منطقة أبلي التي تعد ثلاثة آلاف نسمة في غرب باريس «منذ عام» عن طبيب جديد ليحل محل أحد الأطباء الثلاث الذين غادروا المنطقة.
الوضع الطبي الباريسي بحاجة لخطة مارشال
وهذا التحدي يبدو هائلاً لدرجة أن الوكالة الإقليمية للصحة تتحدث عن ضرورة وضع «خطة مارشال حقيقية» نسبة إلى خطة إعادة الإعمار الكبرى في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
وهذا الوضع الطبي في ضواحي باريس القريبة من الأماكن الأثرية والسياحية؛ يستلزم من السائح أن يأخذ تدابير صحية، فيزور طبيبه الخاص قبل السفر إلى باريس للكشف الروتيني، وأخذ كمية من أدويته الخاصة تكفيه طوال فترة إقامته؛ حتى لا يحتاج إلى زيارة طبيب فرنسي أو شراء دواء قد لا يكون له بديل هناك.