هذه قضيّة اهتزّ لها عرش أهمّ وأشهر مجلّة ألمانيّة هي «Der Spiegel ديرشبيغل» وتمّ الكشف عنها منذ ستّة أشهر، ومثّلت فضيحة مدويّة ضربت مصداقيّة المجلّة الأسبوعيّة في الصّميم، وقد شبّه البعض ما حصل، بزلزال أصابها في مقتل، وتجاوز الضّرر المعنويّ «دير شبيغل» ليصل إلى بقيّة وسائل الإعلام الأخرى في ألمانيا وأوروبا.
«سيّدتي» تابعت في هذا التّحقيق كلّ تفاصيل هذه القضيّة المثيرة، وماجدّ فيها هذه الأيّام من جديد.
في حفل بهيج وأمام مئات المدعوّين، صعد الصّحافي Claas Relotius «كلاس رولوتيوس» ليتسلّم تحت وابل من التّصفيق الحارّ، جائزة أفضل عمل صحفي لعام 2018، وهي رابع جائزة ينالها في مسيرته المهنيّة، مع أنّ عمره لم يتجاوز 33 عاماً.
مرّ الحفل وشعر المسئولون في إدارة وتحرير مجلّة «دير شبيغل» الأسبوعيّة الألمانيّة الشّهيرة بالفخر والاعتزاز، بفوز صحافيّ شاب ينتمي إلى فريقهم منذ سبع سنوات، بهذه الجائزة القيّمة عن مجموعة من المقالات والتّحقيقات الاستقصائيّة التي نشرها تباعاً في موقع المجلّة، وهو الأنجح في ألمانيا، وفي نسختها الورقيّة.
لقد أصبح «كلاس رولوتيوس» رغم صغر سنّه، «نجماً» في عالم الصّحافة والإعلام في ألمانيا، وحتّى في خارجها، وهو الذي نال في مناسبة سابقة لقب «صحافي العام» من شبكة «سي إن إن» الأميركيّة عام 2014، وكان في الثّامنة والعشرين من العمر.
تحقيقات مفبركة
وفجأة وبعد مدّة قصيرة من حفل التّكريم، صدر على موقع المجلّة الألمانيّة مقال مدهش في قالب رسالة مفتوحة للقرّاء، تحيط فيه أسرة التّحرير الجميع علماً بأنّ أحد أشهر صحافييها وألمعهم، وهو «كلاس رولوتيوس»، هو صحافيّ مخادع وكاذب ومحتال، وأنّ مجموعة كبيرة من مقالاته وتحقيقاته التي نشرها تباعاً منذ انتدابه في المجلّة ونال عنها أكبر الجوائز الألمانيّة والعالميّة وأهمّها، هي مفبركة جزئيّا أو كليّاً، وأنّ القصص الإخباريّة التي أبدع في تحريرها على مدار سبع سنوات وجلبت له إعجاب المسئولين في أسرة تحرير المجلّة وكسب بها استحسان القرّاء ورضاهم، إنّما هي في أغلبها قصص من صنع خياله؛ فقد كتب عن أناس لم يلتقهم أبداً، ونشر أحاديث لم يجرِها، ووصف أماكن لم يزرها إطلاقاً، ونسج قصصاً معتمداً على الإنترنت وخياله.
قصص مختلقة
وعلى سبيل المثال؛ فلقد اختلق قصصاً صحفيّة كثيرة نشرها عن الحرب في سوريا، ونسج من خياله سلسلة من التّحقيقات الجذّابة.
ومن بين قصصه الإخباريّة الكاذبة، وصفه لرحلة بالباص مع صحافيّة أميركية، والتي حضرت إعدام بعض الموقوفين، كما نشر قصّة يمني قضى 14 عاماً في «غوانتينامو» وتبيّن أنّها قصّة مفبركة هي الأخرى؛ فهو يشاهد بعض «الفيديوهات» ويبحر عبر «الإنترنت»، ويتابع الأحداث السّاخنة في العالم ويصنع من كلّ ذلك مواد صحفيّة ناجحة يكسوها بكساء جذّاب في شكلها ومضمونها؛ فمواضيعه التي تتراوح بين اللقاء القصير أو الحوار المطوّل والتحقيق والريبورتاج مختلفة متنوعة، وهو مؤلف بارع لسيناريوهات شبّهها أحدهم بروايات الكاتب الفرنسي الشّهير «إيميل زولا».
أكبر فضيحة تزوير صحفي
اعتذرت المجلّة الأسبوعية الأكثر توزيعاً في أوروبا بأكملها لقرّائها عن نشرها مواد صحفيّة مزوّرة، ووصفت ذلك بأنّه: «أسوأ ما يمكن أن يحدث لفريق تحرير صحفيّ»، ووصف اتّحاد نقابة الصحافيين في ألمانيا ما حصل بـ «أنّه أكبر فضيحة تزوير صحفي عرفتها الصحافة الألمانيّة منذ أن نشرت مجلّة شتيرن الألمانيّة عام 1983 يوميّات الزّعيم النّازي أدولف هتلر، وتبين أنّها مزوّرة»، وما خفّف من شعور أسرة تحرير المجلّة بالحرج من الكابوس الذي نزل عليها فجأة، هو أنّ زميلاً صحافيّاً لـ« كلاس رولوتيوس» واسمه «جون مورينو»، ويعمل في «دير شبيغل»، هو من اكتشف كذب زميله وخداعه المهني، ونجح بالدّليل والبرهان في إظهار فبركته للتّحقيقات الاستقصائيّة، ورأت أسرة التّحرير أنّه من الأفضل أن يأتي الكشف عن الفضيحة من داخل المجلّة وليس من خارجها، وسارعت أسرة التّحرير حرصاً منها على مصداقيّتها، بالإعلان بنفسها وبكلّ شفافيّة عن القضيّة.
اكتشاف عمليّات الفبركة والتزوير
بمناسبة الحوادث التي حصلت على الحدود بين الولايات المتّحدة والمكسيك بسبب الهجرة غير الشرعيّة، أعدّ «كلاس رولوتيوس» تحقيقاً استقصائيّاً من الجانب الأميركي عن الميليشيات الأميركية المعارضة للهجرة، وتكفّل «جون مورينو» بإعداد تحقيق من الجانب المقابل، أي من المكسيك.
وعند النّشر للتّحقيق بجزئيه للصحافيّين الاثنين، تبيّن لـ«جون مارينو» أنّ عمل زميله غير مقنع في مضمونه واستنتاجاته، وأظهر ذلك لأسرة التحرير التي لم تولِ الأمر أهمية تذكر لثقتها في كلاس رولوتيوس وعمله.
حزّ الأمر في نفس «جون مورينو»؛ فقرّر السّفر من جديد على حسابه الخاص للولايات المتحدة الأميركية للتثبت والتأكد بنفسه من صحة المعلومات ومصداقيّة الحوارات التي وردت في تحقيق زميله، والتقى أشخاصاً أورد «كلاس رولوتيوس» شهادتهم؛ فأكّدوا له أنّهم لم يلتقوه أبداً، ولم يدلوا له بأيّ تصريح أو شهادة، وجمع «مورينو» معلومات ومعطيات تناقض تماماً ما نشره «كلاس»، وعاد وفي جرابه كلّ الأدلّة والحجج التي تثبت أنّ عمل زميله مزوّر ومفبرك، وعرض كل ذلك على أسرة التحرير؛ فكانت الصّدمة التي تحوّلت إلى كابوس، وانفجرت الفضيحة التي تحوّلت إلى أزمة.
المواجهة والجواب العجيب
تمّت دعوة «كلاس» للمثول أمام أسرة التّحرير، وعرضوا عليه الأمر، أنكر في البداية وحاول المراوغة، ولكن أمام الحجج الدّامغة والبراهين السّاطعة، لم يجد بدّاً من الاعتراف بما اقترف؛ بل وكشف عن تزويره الكثير من تحقيقاته السابقة وهي كثيرة.
ولمّا سألوه عن الأسباب التي جعلت صحافياً شاباً مثله ناجحاً لامعاً وله الكفاءة والمهارة وله قلم وقدرة رائعة على التحرير والكتابة الممتعة المفيدة، يلتجئ إلى الفبركة والكذب وخداع القراء ورؤسائه والإساءة للمجلة العريقة التي تشّغله وتدفع له راتباً محترماً وترسله على حسابها إلى مشارق الأرض ومغاربها لإعداد تحقيقات، وتوفر كل إمكانات وظروف أداء عمله الصحفي بإتقان ومصداقية وحرفية، أجاب جواباً عجيباً وقال، إن ما دفعه لذلك هو الخوف من الفشل؛ مؤكداً أنه كلما زاد نجاحه المهني وتوسعت شهرته كصحافي لامع ومتفوّق ونيله أعلى الجوائز، زاد شعوره بالخوف من الفشل، وأضاف: «إنني مريض وفي حاجة إلى المساعدة».
حزم «كلاس» أمتعته وغادر مكتبه بلا رجعة، ولكن إدارة المجلة لم تكتف بفصله؛ بل أحالت ملفه إلى النيابة العامة، وشكته إلى القضاء لما ألحقه بها من ضرر مادي ومعنوي.
اختفى عن الأضواء ولم يدلِ بأي تصريح أو حديث صحفي، ولم يظهر في أية مناسبة عامة، وألغى حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، والتصريحات القليلة عنه جاءت على لسان محاميه.
أما «مورينو»؛ فقد منحته جمعية في «هامبورغ» جائزة وهو بصدد تأليف كتاب عن القضية، وقد اشترى منه مخرج سينمائي الحقوق ليحول الكتاب إلى فيلم سينمائي.
السؤال المحير، ويبقى السّؤال المحير هو: كيف أنّ مجلّة عريقة مثل «دير شبيغل»، والتي تأسّست منذ 1947؛ (أي منذ 72 عاماً)، تقع بهذه السهولة فريسة لخديعة صحفي شاب؟
وكيف نجح «كلاس» والذي أصبح من ألمع وأنجح صحافييها، في مخادعة أسرة تحريرها بطمّ طميمها والتحيّل عليها بتقارير وريبورتاجات وهمية كثيرة ومتنوعة، على امتداد سبعة أعوام بأكملها؟
وكيف لم يتفطن إلى تزويره أحد في مجلة تعج بمئات الصحافيين الأكْفَاء المهرة وبعدد كبير جداً من العاملين في الموقع وفي الأرشيف، والذين من المفروض ألا تفوتهم شاردة ولا واردة؟
التحقيق
حال الكشف عن الفضيحة، كونت أسرة تحرير المجلة لجنة تضم اثنين من أقدم المحرّرين بها وأكثرهم كفاءة وخبرة وحرفية، وصحفيّة ثالثة من خارج المجلة؛ لضمان أكثر للحياديّة والشفافيّة، وكلفتها بإجراء تحقيق معمق والعودة إلى كل ما نشره الصحافي، وتفكيك كل ما حرّره والسعي لفهم مفاتيح أسلوبه في الفبركة والتزوير الصحفي، ومنحت اللجنة فترة ستّة أشهر لتعرض نتائجها عليها، ووعدت أسرة تحرير المجلّة القراء بنشر تقريرها كاملاً.
وفعلاً، كانت أسرة تحرير المجلّة عند وعدها، ونشرت هذه الأيام التقرير كاملاً.
ومن أهمّ نتائجه: إثباته أن لا أحد من أسرة التّحرير كان على علم بما كان يقوم به الصحافي المزوّر، أو غطى عليه، كما ركز التقرير على شخصية الصحافي «رولوتيوس» ومسيرته؛ فقد بدأ منذ عام 2014 يتعامل مع المجلة بالقطعة، ثم وقع انتدابه بشكل رسمي عام 2017، وكان شاباً لطيفاً مع الجميع، ولا يتوانى في طلب النصح، ويُجمع كل الصحافيين على أنه رجل طيب أنيق يتسم بالتواضع والمجاملة، ولا أحد كان يمكن أن يتصور أنه شخص مخادع.
وعلى ضوء نتائج التقرير، اتخذت المجلة، التي توزع 840 ألف نسخة كل أسبوع، قرارات عديدة صارمة، ووضعت قواعد عمل جديدة للمراقبة والتثبت والمتابعة؛ حتى لا تتكرر عمليّة الفبركة والتّزوير أبداً.