هناك أحداث يتعذر فهمها بين البشر، إلا أنها تحدث فى لحظة اندفاع جنوني.. فقد شهد السودان قصة واقعية، لكنها أغرب من الخيال، بطلها أب فى الخمسين من عمره، كان ينوي الخلاص من ابنته أم شوائل، وهي لم تكمل ربيعها الحادي عشر، عندما توفيت والدتها وتزوج بأخرى.
يبدأ شمس اليوم الجديد عند خروج الفتاة إلى المرعى بصحبة أغنامه وأبقاره، وفي أحد الأيام، وما أن أسدل المساء ستاره، وعادت أم شوائل من المرعى بعد غفوة نهارية؛ حتى وجدت أن أربعاً من نعاجها؛ قد اختفت تماماً، فتملكها الخوف والفزع مما ينتظرها.. وما أن لاحت بوادر حي «أم عجيجة سودري»، حتى أطل الأب بوجه عابس؛ فتفحص القطيع وصرخ عالياً متسائلاً:
وأين بقية النعجات؟
قالت: «يا أبوي، النعاج فرت مني وما لقيتها».
استشاط الأب غضباً وهياجاً وشتماً وضرباً حتى أطل الفجر؛ ليمسك بيد صغيرته متجهاً بها نحو بئر «شناقيط» المهجورة لأكثر من عشر سنوات، ودفعها إلى جوفها.
«سيدتي نت»، التقت أم شوائل؛ لتروي قصتها التي تفوق الخيال.
إلى البئر
قالت: منذ الصباح دفعني بعصاه الطويلة نحو بئر مهجورة؛ لأجد نفسي داخل منطقة مظلمة، فيها أكوام من الخشب والعشب والرمال وبعض ماء.. بكيت وصرخت، ورجوته إخراجي من هذا المكان، من دون استجابة لنداءاتي ودمعاتي، وخلال لحظات؛ ظهرت أشباح أغنام، لكنها لا تشبه الأغنام التي كنت أرعاها، وبدأت القشعريرة تكسو جسدي، وأدركت أنني أعيش في عالم ليس كالذي كنت فيه، فلا ضوء، ولا شمس، ولا أكل، ولا شرب.
ظهرت الثعابين، كبيرها وصغيرها، وأحاطت بي العقارب الملونة، وكنت أبعدها عني بوساطة تلك الأخشاب.
أحسست أنني جائعة وعطشى؛ فوقف أمامي شخص في هيئة رجل من دون وجه، ولكنه يرتدى ملابس بيضاء، ويحمل في يده إناء مستديراً مليئاً بحليب الإبل؛ ممزوجاً بقليل من الملح، ورجاني أن أتناوله؛ ففعلت، واختفى ذلك الإنسان.
ظللت أبكي وأدعو الله أن ينقذني من تلك المحنة، ولم يكن لديّ أي غذاء سوى حليب الإبل.
وتتابع أم شوائل قصتها: هكذا عشت مقهورة، تسعة وثلاثين يوماً؛ ليقف أمامي ذلك الرجل في زيه الأبيض قائلاً:
«هذه هى آخر وجبة أقدمها لك، وغداً سيأتي من ينقذك من هنا، لكن وصيتي الوحيدة هي أن تبدلي اسمك ليصبح «آمنة».
أطل فجر اليوم الأربعين، والصبية تواصل الأنين والبكاء والصراخ؛ ليسمعها طفل في العاشرة من عمره، جاء ماراً بتلك البئر المهجورة؛ فأبلغ أهل الحي أن هناك أصوات أنين تنبعث من داخل البئر المهجورة.
فتنادى أهل الحي لسماع ذاك الأنين المتواصل؛ خاصة وأن ما يشاع حول تلك البئر، أنها بئر يسكنها الجان؛ فاقترب شاب يدعى: خيرالله، وقال لي:
هل أنتِ إنسان! أم جان؟
أجبته:
أنا إنسان والله.. أرجوكم أنقذوني.
حبال وأقطان.. وعقارب
قالت: سمعت أصواتاً وتهليلاً وتكبيراً، لكن أصوات الأغنام لم تفارق مسمعي، حتى هبط من مدخل البئر رجل اسمه عبدالخير، يحمل حبالاً طويلة ومسنداً، وبعض أقطان، وربطني بتلك الحبال، وأسند ظهري إلى مسند صغير وهو يحمل بطارية صغيرة، وظل يردد: قولي «يا لطيف.. يا لطيف»، هنا اختفى ذاك الثعبان الأسود ذو العيون الحمراء الذي ظل واقفاً أمامي طيلة بقائي داخل البئر، ورأيته بعيني عندما تحرك وذهب بعيداً، حتى تصورته يقول لي وداعاً.
هنا تدخلت جدتها فاطمة لتقول:
أم شوائل ظهرت كعظم من دون لحم... والأشواك اختلطت بضفائرها، والعقارب ملتصقة على فروة رأسها، ولكنها لم تؤذِها؛ مما دفع بـ«الخير» الذى أنقذها؛ ليقص شعرها الذى كان طويلاً جداً.
وتجمهر الناس في حمرة الشيخ بشمالي كردفان لرؤية الطفلة التي دفع بها والدها إلى البئر، وكان الأب يجيب عن تساؤلات أهل القرية، أن ابنته ذهبت لتبقى إلى جوار أخوالها أشقاء والدتها المتوفاة؛ في محاولة منه لإخفاء جريمته.
وتواصل الصبية حديثها لــ«سيدتي نت»:
ما أن عدت للحياة؛ حتى سألت:
أين أبوي؟
فأجابوني: إنه متحفظ عليه داخل السجن بسبب إيداعك البئر.
فقالت: خذوني للحكومة لأطلب منهم إطلاق سراحه؛ فقد عفوت عنه، وأريده طليقاً ليعيش مع زوجته وأولاده.
الصبية عقب خروجها من البئر؛ لزمت مستشفى سودري الأبيض بغربي السودان، ثم مستشفى الخرطوم حتى استقر بها الحال داخل مستشفى البراحة الخاص، والذي تبرع مديره بإيواء الصبية.
مع الطبيب المعالج
د.عبدالله المطبعجي، أخصائي جراحة الأطفال، والذي اعتنى بها لشهر كامل داخل مستشفى البراحة، روى لــ«سيدتي» بعض التفاصيل؛ قائلاً:
هذه معجزة إلهية؛ أن تظل طفلة داخل قاع بئر لأربعين يوماً، وتعود للحياة سالمة، جاءت وهي تعاني إصابات خارجية، والتهابات داخلية، ونسبة السوائل في جسمها أشبه بالمعدومة، وعلى وجهها آثار جروح، وتعاني من تشنجات وخوف من مواجهة الناس، وتعتريها حالات رعب.. ورغم أن الإنسان عدو للحشرات؛ فالحشرات والعقارب لم تهاجمها، وقد خضعت للتشخيص والعلاج والغذاء، وعادت لها العافية الآن.
وتقول سستر نجاة محمد عبدالله، مسؤولة التمريض في المستشفى:
جاءت أم شوائل نهاراً؛ فأسرعنا بقص شعرها، وأزلنا الأشواك والعقارب، ووفرنا لها الملبس والأكل التدريجي؛ حتى تأقلمت على المضغ والبلع، ثم الحديث والضحك .. ومازالت تمارين العلاج الطبيعي تدعم خطوات مسيرتها، ويدها اليمنى التي تأثرت بالعيش داخل مكان مظلم لفترة طويلة.