عرف العرب القدماء الزمن والوقت وتتبع آليات قياسه، وقدروا الوقت بتقسيمات واضحة، وزادهم الإسلام اتصالاً بالمواقيت لضبط عباداتهم ومعاملاتهم، ودوّن مؤرخو الحضارة الإسلامية أحداثها بالساعات والدقائق.
ولما كان الوقتُ على هذه المنزلة في ثقافة العرب قبل الإسلام وبعده، كان طبيعياً أن يكونوا على درجةٍ من التميّز في التعامل معه، والسبق في طرق تقسيمه وقياسه، والتعبير عن جريانه وتقلباته؛ لكن هل كانوا يحسبون وقتهم كما نفعل الآن؟ يقسمون يومهم وليلهم أربعاً وعشرين ساعة؟ وهل كان أحدُهم يواعدُ الآخر عند الساعة الخامسة أو السادسة مثلاً؟ ولو كانوا يفعلون ذلك؛ فكيف كانوا يقيسونه؟ وما هي طريقتُهم في الإخبار به؟
نظام الأربع وعشرون ساعة
كانت العربُ تقسّم يومها أربعاً وعشرين ساعةً كما يصنع الناسُ الآن، لكنّها لم تكن ساعاتٍ متساويةً كساعات اليوم؛ بل كان النهارُ عندهم اثنتيْ عشرة ساعة، والليل اثنتيْ عشرة ساعة، طال أحدهما أو قصر.
وأغلبُ الظنّ أن العرب إنّما أخذوا هذا التقسيم للساعات عن اليونانيين والمصريين، لشبهه الكبير بطريقتهم.
فقد ذكر بيتر بوردمان -في بحث نشره بعنوان: «عدُّ الوقت: تاريخ مختصر للساعات الأربع والعشرين»، أن اليونانيين القدماء كانوا يعدّون أوقاتهم على أربع وعشرين ساعةً، نصفها نهاراً ونصفها ليلاً «على الوصف المطابق لما كان يفعله العرب، وأنّ الفضل يعود إليهم في إعادة عدّ الساعات من منتصف النهار، ثم منتصف الليل في القرن الثالث عشر، ذلك أنّهم رأوا العدّ أسهل من منتصف النهار لوضوح الساعة في وقت الظهيرة؛ حيثُ تكون الشمسُ في أعلى مستوى لها في السماء»، وفق كلامه، وهو ما عبّر عنه العرب بكون الشمس حينها تكون «في كبد السماء».
آلات حساب الوقت الأولى
نشأ علم الساعات في زمنٍ مبكر؛ ففي عام (192هـ=807م) أهدى هارون الرشيد (ت 193هـ) ساعة دقَّاقة معقَّدة إلى شارلمان (ت 814م) ملك الفرنجة، كما أبدع عبَّاس بن فرناس (ت 274هـ) ساعةً سمَّاها «الميقات» أهداها إلى الأمير محمد بن عبدالرحمن في منتصف القرن الثالث الهجري، وأرفقها بأبيات شعريَّة يصف فيها أهميَّة اختراعه وفوائده.
وفي القرن (الرابع الهجري= العاشر الميلادي) نقل الفلكي والرياضي ابن يونس (ت 399هـ) تقانة الساعات نقلة عظيمة، وذلك باختراعه الرقَّاص (البندول) الذي استُخدم في الساعات الدقَّاقة، وكان لـابن الهيثم (ت 431هـ) إسهامٌ في علوم الساعات كما ورد في مقالته في علم البنكام، ومنذ القرن الخامس الهجري، وصلت الساعات المائيَّة العربيَّة إلى حالٍ من التقدُّم لا منافس لها في أيِّ مكانٍ من العالم.
وثَمَّة مخطوط عنوانه: «كتاب الأسرار في نتائج الأفكار»، يقع في مصنَّفٍ تحت عنوان: «رسائل مجهولة عن الآلات»، موجودٌ في المكتبة الطبيَّة الورنزيَّة في فلورنسا، تحت رقم Msor 154، منسوخ في عام 664هـ لمجهولٍ عاش في الأندلس في القرن الخامس الهجري، يحتوي الكتاب على واحدٍ وثلاثين نموذجاً، منها شروح لنماذج من الساعات، وفي الواقع أنَّ المؤلِّف هو محمد أو أحمد بن خلف المرادي، ويقول عنه دونالد هيل: «توجد اختلافات هامَّة بين المكنات الموصوفة في هذا البحث، وتلك التي تقع في الأبحاث العربيَّة الأخرى، إنَّها مكنات أكبر وأقوى، وتستعمل أنواعاً مختلفة من أجهزة التحكُّم».
وفي القرن السادس الهجري تجلَّت إسهامات إسماعيل الجزري (ت نحو 602هـ) المهمَّة في كتابه «الجامع بين العلم والعمل النافع» في وصفه تركيب الساعات الدقيقة، التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي يظهر فوقها: ساعة القرد، ساعة الكاتب، ساعة الطبَّال، ساعة الرامي البارع.. ، ولديه نموذج ساعة قريبة الشبه من الساعة التي كانت على باب جيرون من المسجد الأموي في دمشق، وقد ذكر أحمد يوسف الحسن نقلًا عن برايس وصفًا لساعتين مائيَّتين ماتزالان قائمتين حتى اليوم في فاس بالمغرب منذ القرون الوسطى، وهما تُشبهان-من وجوهٍ عدَّة- الآلات التي وصفها الجزري.
وأتى بعد الجزري رضوان الساعاتي (ت 618هـ)، يقول دونالد هيل: إنَّه وضع في مقدِّمة كتابه «علم الساعات والعمل بها» التحسينات، التي أدخلها هو ووالده على تصميم الساعات في قائمةٍ أُقيمت على ساعة هرمز ذات الأبواب، التي عملت بالآليَّة المائيَّة الأرخميديَّة، ويُضيف هيل قائلاً: إنَّ مقالة رضوان ذات أهميَّةٍ عاليةٍ من حيث الملاحظات التي تُقدِّمها عن التطوُّر التاريخي للساعات المائيَّة.
وقد ظلَّ العرب يُحسِّنون الساعات ويختصرون حجمها ويزيدون في دقَّتهـا؛ حتى جعلوها ساعة حائط لا يزيد حجمها على نصف ذراع؛ ففي القرن الثامن الهجري، استطاع العالم الرياضي ابن الشاطر (ت 777هـ) أن يصنع ساعةً صغيرةً لا تزيد على (30) سم، وأدخل فيها الآلات المعدنيَّة، واستغنى عن الماء وآلاته الخشبيَّة الكبيرة؛ فخرج بالساعات من دائرة الماء إلى دائرة الميكانيكا، ومن دائرة الخشب إلى دائرة المعدن.
وعليه يُمكن القول: «إنَّ كثيراً من الأفكار المجسَّدة في الساعات المائيَّة العربيَّة، استُخدمت في الساعات المائيَّة الأوربِّيَّة، وإنَّ في اختراع الساعة الميكانيكيَّة أفكاراً عربيَّة، مثل جهاز نقل الحركة الآلي الذي استخدمه صانعو الساعات الأوربِّيُّون».
وكانت حين سقطت طليطلة في الأندلس في عام (478هـ=1085م) هناك ساعتان مائيَّتان نظمتا على مراحل القمر، ونصبهما ابن الزرقالي إبراهيم بن يحيى النقاش (ت 493هـ) على ضفتي نهر التاجة Tagus، إحداهما دامت في العمل حتى سنة (529هـ=1134م)، ومن البديهي أن يكون علماء الغرب قد استفادوا من تلك الشواهد وزادوا عليها إبداعاتهم الخاصَّة.