استطاعت هيئة المتاحف السعودية أن تؤطر سحر الظلام والليل بنجومه وقمره وأمسياته الساحرة وذكرياته الجميلة ضمن معرض تم افتتاحه أمس في الصالة المؤقتة للمتحف السعودي للفن المعاصر في جاكس في محافظة الدرعية، يحمل عنوان "في الليل" ويشارك فيه 30 فناناً من مختلف أنحاء العالم بينهم فنانون من المملكة العربية السعودية، ولبنان والمغرب وتونس والهند واليابان والأرجنتين وكرواتيا وباكستان وأستراليا، والمكسيك، وفرنسا، وبريطانيا.
لثلاثة أشهر
تراوحت الأعمال الفنية الملهمة والمبتكرة التي تم الكشف عنها مع افتتاحية المعرض ما بين الصور الفوتوغرافية والفيديو واللوحات التشكيلية والنحت والأعمال التركيبية والنسيج وغير ذلك، وأتت جميعها لتُعبر عن مختلف جوانب الليل من خلال منظور الفنانين، حيث جسَّدت إبداعاتهم جماليات الليل وتفاصيله الساحرة، وعبَّرت عن مشاعر وأفكار متنوعة مرتبطة بهذه الجزئية من اليوم.
من المقرر أن يستمرّ المعرض لثلاثة أشهر بدءاً من 15 فبراير وحتى 20 مايو 2024م، وقد شهد في يومه الأول إقبالاً كبيراً من محبي الفن والثقافة، وينقسم إلى 4 أقسام أساسية هي: القسم الأول بعنوان "ليالٍ كونية"، ويتضمن أعمالاً فنية مُهداة إلى التناغم الكوني، تحمل الزوار في نزهة بين عجائب السماء والعوالم المجردة، القسم الثاني باسم "ليل غزير"، وفيه ينتقل الزوار إلى فضاءات الليل ليستكشفوا لعبة الجسيمات الكونية، أما في القسم الثالث بعنوان "أحلام"، فيبتكر الفنانون المشاركون مساحات موازية وجديدة تحتضن أعمالاً تشبه الأحلام تتحدى الواقع الظاهر، وفي القسم الأخير بعنوان "أطياف الليل"، يترصّد الفنانون نبضات الليل في محاولة لالتقاط شيء من عوالمه الغامضة.
قد يهمكم معرفة أنه إلى جانب العديد من الفعاليات التي نظمتها الهيئات التابعة لها مؤخراً، وزارة الثقافة السعودية تُصدر أول 3 كتب ضمن إصدارات عن التنوع اللغوي واللغات المهددة بالاندثار
نُعيد الاحتفاء بالليل
من جهتها أشارت القيّمة الفنية المشرفة على المعرض، الكاتبة الفرنسية المتخصصة بـ الفنون البصرية، جيرالدين بلوك، إلى رغبتها منذ زمن للعمل فنياً على موضوع "الليل"، وتحدثت عن القيمة التي يجسدها هذا الموضوع بالتحديد قائلة في حديث خاص لـ"سيدتي": "الجميع يعرف ما هو الليل لكننا اعتدنا عليه، لذلك ننسى الآن الاحتفال به، في الثقافة العربية ما زال يُحتفى به، ولكن في أوروبا كما تعلمون مع طريقة العيش ننسى أهمية الليل، وأنا أرى أنه جزء من يومنا وكلنا مرتبطون به، فكانت الفكرة أن نجمع الناس والفنانين من أماكن مختلفة من العالم؛ ليتحدثوا عن الليل بطريقة أو بأخرى، يمكن أن يكون الليل مليئاً بالنجوم، وجميلاً جداً، ويبعث على الحنين، ولكنه قد يكون أيضاً فظيعاً ومخيفاً، وأحياناً قد ننساه كلياً."
وأضافت: "ظهور الكهرباء غيّر علاقتنا بالليل، وأعتقد أن مجتمعاتنا باتت تتوق بشدة إلى المعلومات والضوء والهواتف والأخبار، لذا فنحن بحاجة إلى الهدوء وتقدير الليل وفكرة عدم الإمساك بكل شيء وترك عقولنا ترتاح وتتحرر، وهذه طريقة للاحتفال بنوع من الاستبطان الذي نحتاجه بشدة لمواجهة الواقع. في الليل نحلم، أو لا نحلم، وقد لا نستطيع النوم، يمكن أن يحدث أي نوع من المواقف، ولكن لدينا جميعاً هذا الأمر المشترك، حتى الحجر، حتى النبات الصغير يتأثر بالليل وإيقاع الليل، وما وجدته جميلاً هو دعوة الناس من أي مكان في العالم لأنه عندما ينام شخص، شخص آخر يستيقظ في الجزء الآخر من العالم."
وتابعت حديثها بالقول: "بالنسبة لي كقيّمة، كان الأمر مثيراً للاهتمام، لأننا نحن في العالم الرقمي، ونحن نتحكم في كل شيء، ولكننا لا نزال نعتمد على هذا الإيقاع، ووجدت أنه شيء يسهل الوصول إليه للغاية، كل ما تختاره لا تحتاج تفسيراً له، ولا تحتاج إلى أن تكون متخصصاً في الفن، فنحن كلنا متخصصون في "الليل"، على ما أعتقد".
الليل ملجأ وصديق
أما عن كيفية اختيار الفنانين والأعمال الفنية المشاركة في المعرض، فأكدت جيرالدين بلوك: "اخترت ما أردته وما أعجبني، بالطبع بعض الفنانين عملوا كثيراً على موضوع "الليل"، وهم يعملون في الليل عندما لا يستطيعون النوم، فالليل هو ملجأ وصديق، وفي الليل أحياناً نفهم الحياة بشكل أفضل مما نفعل نهاراً، وكانت الفكرة هي أن نتوجه نحو الليل، ننسى قليلاً الضوء وأنفسنا، ونطلق العنان للتساؤلات والتأمل. البعض مهووسون جداً بالليل، والآخرون كانت لهم مجرد محاولة حول "الليل"، عمل واحد ربما، وبعض الأعمال الفنية لا تتعلق بشكل مباشر بالليل ولكن التجربة تبدو مثل الليل، كالتماهي مع الظلام، وحث أعيننا على رؤية أشياء لم نتمكن من رؤيتها في البداية، وأعتقد أن هذه هي النقطة الجيدة حول هذا المعرض، أشخاص من كل مكان ولكن لديهم طريقتهم الحساسة لفهم "الليل"، وأشعر وكأن كل الأعمال الفنية هي في نفس الليلة، لكن كل فنان يقتطع جزءاً صغيراً من الليل ويُعيده إلينا، أو أنه يشبه خطاً زمنياً كبيراً من لحظات مختلفة من الليل في كل مكان في العالم."
طاقة جنونية
ونوَّهت الكاتبة والقيّمة الفنية الفرنسية بالمشهد الثقافي وتوجه الفنون اليوم في المملكة، قائلة: "أنا شخصياً منبهرة جداً بما أراه، هناك طاقة جنونية الآن، الناس يتمتعون حقاً بخلفية جميلة جداً عالية المستوى، لذا فهم يشعرون بالحرية في الابتكار، وبالنسبة لهذا المعرض فقد قررت أن أختار فقط المشاريع المتميزة مع الفنانين السعوديين، لأنه بالطبع لا يمكنني دعوة كل الساحة الفنية، اخترت ستة فنانين وقلت لهم: لا أعرف إذا كان بإمكاننا أن نقول هذه الكلمة كما نقولها باللغة الإنجليزية "بطاقة بيضاء" (كامل الحرية للعمل)، يمكنهم أن يفعلوا ما يريدونه، منهم منْ تحدث عن الحلم بعمل تركيبي غريب، عن الكوابيس، عن الأسنان وفقدها والذي يمكن أن يكون هاجساً أو كابوساً، لذا فالعمل كان مليئاً بالهدوء والتأمل، لكن الفكرة مع الفنانين السعوديين هي أن الليل مهم جداً في الثقافة هنا أكثر بكثير مما هو عليه في ثقافتنا الأوروبية، أعني باللغة العربية، يمكنك اختيار اسم ليلى/ ليلة/ ليل لابنتك ، مستوحى من الليل، وأنا أجد هذا جميلاً جداً، في فرنسا لا يمكنك تسمية ابنتك بهذا الاسم. والليل مهم جداً هنا أيضاً بسبب المناخ فهو يحدث للأشخاص مباشرة، وهو وقت خاص للوحي الجماعي والفردي، عن الإسلام، وعن الحياة اليومية أيضاً، والليل هنا وبسبب الحرارة هو الوقت المناسب، وكأنه يوم آخر، ويعجبني ذلك كثيراً."
يُذكر أنّ معرض "في الليل" مُتاح للجمهور بشكل مجاني، مع ضرورة حجز تذكرة الدخول من خلال منصة اكتشف الثقافة على الرابط: https://dc.moc.gov.sa/home/ar/event-tickets/182/in-the-night-exhibition/ ، وعلى هامش المعرض، أعلنت هيئة المتاحف عن إقامة فعاليات ثقافية مصاحبة تتضمّن ندوات وأمسيات شعرية وورش عمل فنية، بهدف تعزيز تفاعل الجمهور مع المعرض.
تذكروا معنا تفاصيل افتتاحية المتحف السعودي للفن المعاصر في هذا المقال: افتتاح المتحف السعودي للفن المعاصر في الرياض مستضيفاً بينالسور 2023