ُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة ربه إلى العالمين رجالاً ونساءً؛ ليُضيء مشارق الأرض ومغاربها، وليتمم مكارم الأخلاق. وكما شَرُف الكثير من الرجال بصحبته وطاعته واتباع سنته شرُفت نساء كثيرات كذلك بهذه الصحبة المباركة، والتففن حول المائدة النبوية لتنهلن من علمه، وتستضئن بنوره صلى الله عليه وسلم، فعاشت المرأة المسلمة أزهى عصورها، ونبغت، فظهرت الفقيهات والمجاهدات والطبيبات والداعيات، والرافعات راية الإسلام في بداياته، وكانت لهن عند رسول الله المكانة العالية والإشادة، وفي هذه الزاوية نلتقي بهؤلاء النسوة اللاتي شرفن بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكرَّمهن.
قال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«علمي حفصة الرُقية كما عَلَّمتها الْكِتَابةَ...»
إنها الشفاء بنت عبد الله بن شمس بن خلف القرشية العدوية، وهي من المبايعات، المبكرات بإسلامها، المجتهدات في دينها.
أسلمت الشفاء قبل الهجرة، فهي من المهاجرات الأوليات، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلَّمت السيدة حفصة زوجة رسول الله القراءة والكتابة، كما علمتها تدوين الكثير من أمور دينها مثل الرقية الشرعية.
صاحبة أول مدرسة:
كانت رضي الله عنها من عواقل النساء وفضلياتهن، أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم دارًا بالحكاكين، فنزلتها مع ابنها سليمان، فكانت تأتيها نساء المدينة يتعلمن منها الكتابة، وكانت من بينهن أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها.
فكانت دارها بحق أول مدرسة بالمدينة المنورة، تعلم النساء فيها القراءة والكتابة، وبعضًا من أمور الطب والدين، فكانت الشفاء بنت عبد الله تزيل عن نساء المدينة الجهل وظلمته، وتبقى مثالاً ونموذجًا نفتخر به عبر التاريخ.
مهنتها الطب
كانت رضي الله عنها تخرج مع رسول الله صلى الله عليه في غزواته فتداوي الجرحى، وكان يأتيها الصحابة في بيتها للتطبيب، وقد اشتهرت برقية النمِلة؛ وهي رُقية قد يظهر لنا من اسمها أنها تفيد التنميل.
كانت من عواقل النساء وفضلياتهن، وكانت رضي الله عنها نموذجًا مشرفًا لنساء عصرها، فكانت شديدة في الحق، قوية على الظلم ولا تخشى من أحد إلا الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها ويقيل عندها، وكانت قد اتخذت له فراشًا وإزارًا خصصته له، ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها سليمان حتى أخذه منه مروان بن الحكم.
رقية تفيد التنميل:
ويُروى أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة؛ أي أصاب جزء من جسده التنميل، فدُل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة فجاءها، فسألها أن ترقيه فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت، خشيةً منها أن ترقي بما لا يرضي الله ورسوله، فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء فقال لها:
«اعرضي عليّ فعرضتها عليه فقال أرقيه وعلميها حفصة كما علمتها الكتابة».
فأقر صلى الله عليه وسلم رقيتها، بل أحب أن زوجته حفصة بنت عمر تفعلها.
أول امرأة تتولى الحسبة:
لم يكن للشفاء دور واضح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل ذاع صيتها كذلك في عهد عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، الذي كان يجلها ويقدرها ويأخذ مشورتها، فولاها أمر الحسبة على السوق تحتسب وتراقب، وتكشف عن المفسدين، وهذه ثقة تعتز بها المرأة المسلمة عبر كل زمان، وردٌ لما أثير حول حرمان المرأة من حقوقها السياسية، أو أنها لا تصلح للعمل العام.
روايتها للحديث:
روت هذه الصحابية الفاضلة أحاديث عدة تنم عن ذاكرتها واهتمامها بشؤون دينها، كما اهتمت الشفاء بأمور دنياها، وكانت على وعي بأحداث عصرها الحياتية والسياسية، فعرف عنها اهتمامها بالسياسة، وبأمر الدعوة إلى الله عز وجل، وكان لهذه الصحابية الجليلة من الاهتمام بأمر المسلمين والتبليغ لكلمة الله الشأن العظيم، فذاكرتها وفطنتها وحنكتها سجلت لها أحاديث عظيمة، استوعبتها وعملت بها، ونصحت ووجهت وقومت بها سلوكيات رأتها مخالفة لما عهدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.
حرصها على النصيحة:
كانت الشفاء واعظة معلمة فقيهة، ويروى عنها أنها رأت فتيانًا يقصدون في المشي ويتكلمون رويدًا، فقالت: ما هذا؟، فقالوا: نُسَّاكٌ، فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وهو الناسك حقًا.
حديثها عن لقب أمير المؤمنين:
ولما سُئلت الصحابية الجليلة عن لقب أمير المؤمنين الذي كُني به «عمر بن الخطاب»، وعن أول من كتب: من عبد الله أمير المؤمنين؟ قالت:
«إنّ لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما المدينة، فأتيا المسجد، فوجدا عمرو بن العاص فقالا: يا ابن العاص استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال: أنتما والله أصبتما اسمه، فهو الأمير ونحن المؤمنون».
فدخل عمرو على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون. فجرى الكتاب من يومئذ.
«إن سيرة هذه السيدة الجليلة تذب بكل قَوْلٍ نال من المرأة أو قلل من شأنها في سنة حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شجع المرأة عالمة ومتعلمة وأخذ بمشورتها، وأثنى عليها مجاهدة وطبيبة، وخير دليلنا على ذلك صاحبة هذه السيرة العطرة الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها وأرضاها وجعل لنا فيها القدوة والاتباع.
وصايا نبوية للحياة الزوجية
التسامح في الحياة الزوجية
الزواج في الإسلام آية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وعفة وسكن للغريزة الإنسانية.
ولكي ينجح هذا الزواج لابد له من منهج قويم وتخطيط سليم.
وفي هذه الزاوية نتناول أهم الوصايا النبوية التي هي مقومات حقيقية للسعادة الزوجية.
ووصيتنا اليوم بخصوص شيء هام يزيد من المحبة والوئام بين الناس كافة وبين الزوجين خاصة ألا وهو التسامح.
وفى القرآن الكريم، في هذا الخصوص، آيات تستحق التدبر والوقوف طويلاً، فالله تعالى أمرنا بأن نعفو عمن أساء إلينا حتى ولو كان أقرب الناس إلينا، فما هو سر ذلك؟ ولماذا يأمرنا القرآن بالعفو دائمًا، ولو صدر من أزواجنا وأولادنا؟
يقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
التسامح والعفو سببان للسعادة
وفي كل يوم يتأكد العلماء من مواكبة القرآن الكريم للعصر وصدق آياته، فقد تأكد الأطباء من شيء جديد في رحلتهم لعلاج الأمراض المستعصية، وآخر هذه الاكتشافات ما وجده الباحثون من أسرار التسامح!
فقد أدرك علماء النفس حديثًا أهمية الرضا عن النفس وعن الحياة، وأهمية هذا الرضا في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية، وفي دراسة نشرت بمجلة «دراسات السعادة» اتضح أن هناك علاقة وثيقة بين التسامح والمغفرة والعفو من جهة، وبين السعادة والرضا من جهة ثانية.
فقد جاؤوا بعدد من الأشخاص وقاموا بدراستهم دراسة دقيقة، درسوا واقعهم الاجتماعي، ودرسوا ظروفهم المادية والمعنوية، ووجهوا إليهم العديد من الأسئلة التي تعطي بمجموعها مؤشرًا على سعادة الإنسان في الحياة.
وكانت المفاجأة أن الأشخاص الأكثر سعادة هم الأكثر تسامحًا مع غيرهم! فقرروا بعد ذلك إجراء التجارب لاكتشاف العلاقة بين التسامح، وبين أهم أمراض العصر مرض القلب، وكانت المفاجأة من جديد أن الأشخاص الذين تعودوا على العفو والتسامح، وأن يصفحوا عمن أساء إليهم هم أقل الأشخاص انفعالاً.
وتبين بنتيجة هذه الدراسات أن هؤلاء المتسامحين لا يعانون من ضغط الدم، وعمل القلب لديهم فيه انتظام أكثر من غيرهم، ولديهم قدرة على الإبداع أكثر، وكذلك خلصت دراسات أخرى إلى أن التسامح يطيل العمر، فأطول الناس أعمارًا هم أكثرهم تسامحًا... ولكن لماذا؟
التسامح يطيل العمر
لقد كشفت هذه الدراسة أن الذي يعوِّد نفسه على التسامح، ومع مرور الزمن، فإن أي موقف يتعرض له بعد ذلك لا يحدث له أي توتر نفسي أو ارتفاع في ضغط الدم، مما يريح عضلة القلب في أداء عملها، كذلك يتجنب هذا المتسامح الكثير من الأحلام المزعجة والقلق والتوتر الذي يسببه التفكير المستمر بالانتقام ممن أساء إليه.
ويقول العلماء: إنك لأن تنسى موقفًا مزعجًا حدث لك أوفر بكثير من أن تضيع الوقت وتصرف طاقة كبيرة من دماغك للتفكير بالانتقام! وبالتالي فإن العفو يوفر على الإنسان الكثير من المتاعب، فإذا أردت أن تسُرَّ عدوك ففكِّر بالانتقام منه؛ لأنك ستكون الخاسر الوحيد!!
وكما يقول شكسبير: لا توقد في صدرك فرنًا لعدوك فتحترق فيه أنت.
وهكذا ندرك لماذا أمرنا الله تعالى بالتسامح والعفو، حتى إن الله جعل العفو نفقة نتصدق بها على غيرنا!
يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
وطلب منا أن نتفكر في فوائد هذا العفو، ولذلك ختم الآية بقوله:
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فتأمل! بسبب الأهمية البالغة لموضوع التسامح والعفو فإن الله تبارك وتعالى قد سمى نفسه العفوّ.
يقول تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}
ولذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالطبع، أمر كل مؤمن رضي بالله ربًا وبالنبي رسولاً، بأخذ العفو، وكأن الله يريد أن يجعل العفو منهجًا لنا، نمارسه في كل لحظة، فنعفو عن أصدقائنا الذين أساؤوا إلينا، نعفو عن زوجاتنا وأولادنا، نعفو عن طفل صغير أو شيخ كبير، نعفو عن إنسان غشنا أو خدعنا وآخر استهزأ بنا؛ لأن العفو والتسامح يبعدك عن الجاهلين ويوفر لك وقتك وجهدك.
ويقول تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
وأخيرًا أيتها الزوجة، هل تقبلين بنصيحة الله لك؟؟! إذا أردت أن يعفو الله عنك يوم القيامة فاعفي عن البشر في الدنيا! يقول تعالى مخاطبًا كل واحد منا:
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ينبغي للإنسان أن يصدر كل ليلة عفوًا عامًا قبل النوم عن كل من أساء إليه طيلة النهار بكلمة أو مقالة أو غيبة أو شتم أو أي نوع من أنواع الأذى، وبهذه الطريقة سوف يكسب الإنسان الأمن الداخلي والاستقرار النفسي والعفو من الرحمن الرحيم، وطريقة العفو العام عن كل مسيء هي أفضل دواء في العالم يصرف من صيدلية الوحي:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
يا من أراد الحياة في أبهج صورها وأبهى حُللِها اغسل قلبك سبع مرات بالعفو وعفّره الثامنة بالغفران