قد يأتي الخريف في كل عام يحمل معه ما يشيع في النفس شيئاً من الإحساس بتلك اللحظات التي تجتاح الروح حين يغيّب الزمن طوعاً أو قسراً وجه الحبيب، وينتاب لهيب القلب فتور غبي كاذب ربما! لكنّه ما ينفكّ يتأجّج مع الصورة الأولى التي قد تعبر في ممرّ الذاكرة.
يأتي الخريف في بعض الأماكن مختلفاً، ولا يقلّ جمالاً وسحراً عن ولادة ربيع ملوّن بعد فصل شتائي عاصف، وهذا ما تلمسه عيناك وأنت تلقي نظراتك الأولى من نافذة الطائرة التي تتهادى هابطة باتجاه العاصمة النروجية "أوسلو"، حيث تعتقد أن تلك المدينة الغافية على زند بحيرتها الواسعة تتربّع بين سهول شاسعة من حقول القمح الخضراء المزيّنة بورود ما، تتبارز فيما بينها بفتنة ألوانها، إلا أنك وبعد أن تقترب الطائرة أكثر وتتّضح الرؤية تكتشف أن تلك المساحات المترامية على مدّ البصر ما هي إلا غابات من الأشجار العملاقة الخضراء المشوبة بألوان بديعة صبغت بها وريقات الوداع، لتعلن للملأ حضور الخريف النديّ.
رحلة الدلال
رحلتنا إلى "أوسلو"، جاءت بناءً على دعوة من "الخطوط الجوية القطرية" لمناسبة افتتاح خط مباشر لها إلى العاصمة النروجية بمعدّل رحلات خمس أسبوعياً، وهي الشركة الوحيدة في المنطقة التي تسيّر تلك الرحلات المباشرة إلى هناك. ورغم معرفتنا المسبقة بمستوى ما تقدّمه "القطرية" من خدمات على متن طائراتها، إلا أنّ ما لمسناه من دلال واهتمام فاق التوقّع.
وباعتبار أن "سيدتي" كانت المجلة العربية الوحيدة المدعوّة إلى هذه المناسبة الهامة، فقد وجدت الفرصة لتلمس كل التفاصيل الدقيقة، التي يقدّمها طاقم الشركة ابتداءً من الاستقبال في مطار دبي والتسهيلات الكبيرة المتوفّرة، مروراً بالاستقبال الرائع في "الدوحة" من باب الطائرة، والانتقال بسيارة فارهة إلى مبنى المطار، وانتهاءً بكرم الضيافة هناك. وبعد اكتمال وصول الفريق الصحافي الدولي، وصعودنا إلى الطائرة التي ستقلّنا إلى "أوسلو"، غمرتنا الابتسامات البشوشة واللطافة الطاغية والرقيّ الذي قابلنا به الرئيس التنفيذي للخطوط القطرية أكبر الباكر، وفريق العلاقات العامة في الشركة.
وحين حطّت الطائرة في مطار "أوسلو" الدولي، لم نشعر بأننا وصلنا بلداً آخر، إذ لم نمرّ على بوابات الهجرة، فقد تولّى مندوب "القطرية" مهمّة ختم جوازات سفرنا، في حين انتقلنا بصحبة الباكر وسفيرة النروج في أبو ظبي أوسه إيلين بيركه التي رافقتنا في هذه الرحلة، لنفاجأ باحتفال راقٍ معدٍّ في المطار، تمّ الإعلان فيه عن الافتتاح الرسمي لخطّ الدوحة- أوسلو، ألقيت فيه كلمات بيّنت أهمية الحدث وآفاق الخطط المستقبلية للشركة القطرية!
خضرة وفن معماري
من هناك، استقللنا القطار السريع باتجاه وسط المدينة، حيثُ كانت تحفّ بنا الخضرة من كل حدب وصوب، وتبهرنا المباني بتصاميمها المعمارية اللافتة والألوان المتعدّدة التي تصبغها. وما إن وصلنا حتى أقلّتنا حافلة فاخرة باتجاه فندق "غراند" الأقدم والأشهر على الإطلاق في "أوسلو"، وهو الفندق الذي يستقبل السياسيين والمشاهير والفائزين أيضاً بجوائز "نوبل" للسلام التي يتمّ توزيعها في العاصمة النروجية.يقع وسط المدينة متصدّراً أهمّ شوارعها (كارل جوهانس)، ويقابله مبنى البرلمان التاريخي والحديقة التي تشهد فعاليات التظاهر والتعبير عن الرأي.
كان الترحيب بنا في الفندق كبيراً، وما إن تسلّمنا غرفنا حتى استسلمنا لحمام دافئ لنأخذ قسطًا من الراحة استعداداً للعشاء.
وفي الثامنة مساءً، انطلقنا من الفندق إلى "كافيه كريستبانيا"، المطعم العريق الواقع أمام الفندق والبرلمان، والذي لا يستغرق الوصول إليه أكثر من دقيقتين سيراً على الأقدام، حيث استمتعنا بعشاء لذيذ، أثناء تفحّص مقتنيات المكان التاريخي من أدوات زراعية وتحف ومجسّمات مختلفة، علماً أنّه يعدّ المطعم الأشهر من بين مطاعم "أوسلو"...بعدها، عدنا إلى الفندق لقضاء ليلتنا الأولى بانتظار البدء ببرنامج اليوم الثاني.
جولة منفردة
صباح اليوم التالي، تناولنا فطوراً شهياً، ثم انطلقنا إلى فندق "كونتيننتال" مشياً على الأقدام (نظراً إلى قرب المكان)، فالطقس كان بديعاً والشمس تغزل خيوطها اللطيفة على أشجار الحدائق الموزّعة في كل مكان، وتداعب تماثيل الشخصيات المشهورة المنتصبة في الشوارع وبين برك الماء.
وبعد أن وصلنا بدقائق، عقد مؤتمر صحفي موسّع حضره الرئيس التنفيذي للقطرية وعدد من مسؤوليها، إضافة إلى ممثلي هيئة سياحة أوسلو Visit Oslo وسفيرة النروج في أبو ظبي وممثلي وسائل الإعلام النروجية والوفد الصحفي الدولي، وقد تمّ خلال المؤتمر شرح التفصيلات عن افتتاح خطّ الدوحة- أوسلو وخطط "القطرية" المستقبلية على الصعد المختلفة. ثم، انتقل الجميع إلى غداء خفيف في الفندق المذكور.
وحين غادرنا المكان، كانت الأجواء اللطيفة الدافئة تدعونا إلى الانتشار في المدينة الساحرة الهادئة، فراح كلّ منّا في اتجاه حسب اهتماماته وميوله، لنبدأ اكتشاف "أوسلو" ومناطقها المنوّعة ابتداءً من شارع كارل جوهانس الرئيس والذي تنتشر فيه المقاهي والمطاعم والمحال التجارية ذات الماركات العالمية الشهيرة، ويتناثر الموسيقيون في أرجائه يعزف كل واحد منهم لحنه الخاص به، فيما الطيور تشارك الناس جولاتها، فتطير تارة إلى السقوف القرميدية، ثم تحطّ تارة أخرى على الأرصفة وتسير مع الناس مضيفة نكهة من الطمأنينة والأمان على مختلف الأماكن.
"غالا دينر"
مساءً، كنّا على موعد مع الحدث الأبرز والمتمثّل في الأوبرا الوطنية النروجية التي شكّلت مكانًا له، وهو أمر قليل الحدوث، فحجزت صالة البهو الضخمة وأقيم فيها مسرح خاص قدّمت عليه الفقرات المختلفة أمام أكثر من 500 مدعو من بينهم مسؤولون حكوميون رفيعون ورجال أعمال وسيدات مجتمع ومشاهير. وتضمّن الحفل كلمات للرئيس التنفيذي للخطوط القطرية وممثل الحكومة النروجية، ثم قدّمت فقرات من عرض الباليه "بحيرة البجع" والذي لم تكن عروضه قد افتتحت بعد وفقرات موسيقية وغنائية لأشهر الفنانين النروجيين، إضافة إلى سحوبات وجوائز قيّمة وزّعت على الفائزين من الحاضرين. واستمر الحفل حتى ساعة متأخرة حيث غادرنا ذلك الصرح المعماري المذهل الواقع على بحيرة "أوسلو" الرقراقة، والذي يعدّ فخراً لأهالي المدينة.
متاحف ونوبل للسلام
اليوم الثالث من زيارتنا كان حافلاً بالغـذاء الروحي، فقد أعـدّت هيئة السـياحة Visit Oslo برنامجاً مكثّفاً ومنوّعاً يشتمل على أهمّ وأبرز معالم المدينة الثقافية والسياحية، وقد رافقنا فيها رجل رائع يشكّل موسوعة متنقّلة يدعى جي آر اختصاراً.
وتضمّن ذاك اليوم جولة دسمة على المتاحف، بدأت بزيارة "مركز نوبل للسلام"، حيثُ شهدنا بثّاً حيّاً لإعلان أسماء الفائزين بجائزة "نوبل" للسلام 2011، والتي حصل عليها ثلاث نساء هنّ: الرئيسة الليبيرية إيلين جونسون سيرليف ومواطنتها داعية السلام ليما غبويي والكاتبة والصحافية والناشطة اليمنية توكل كرمان (وهي العربية الأولى التي تفوز بهذه الجائزة)، وكان المركز يعجّ بالجمهور والأجناس والأعمار، وحين أعلنت الأسماء ضجّت القاعدة بتصفيق حاد.. وبعد جولة في المركز الواقع على ضفة ميناء السفن واليخوت على البحيرة، خرجنا لننعم بدفء شمس "أوسلو" وروعة المناظر الطبيعية الخلابة، قبل أن ننتقل إلى "متحف أستروب فيرنلي للفن الحديث" الذي يحتوي على لوحات رائعة لفنانين عالميين مشهورين من البلدان المختلفة، ويقع على إحدى جزيرتين صمّمتا لمركز تجاري وسياحي بأسلوب عصري ومتفرّد، والمتوقّع أن ينتهي العمل فيه العام 2014.
قمم ساحرة
من هناك، ركبنا الحافلة الأنيقة قاصدين إحدى القمم المطلّة على "أوسلو"، حيث توقّفنا عند المطعم التاريخي "هيلمنكولن" المطلّ على لوحة بانورامية بديعة للمدينة وبحيرتها، وهما يتغنّيان بالخضرة ويتعطّران بروائح الورود البرية، والمطعم مصمّم بالطريقة النروجية الكلاسيكية حيث استخدم الخشب في كل أرجائه بدءاً من الأرضيات والجدران انتهاءً بالسقف والأثاث، وقدّمت لنا أطباق نروجية من خيرات البحر بنكهات خاصة بالمطعم المذكور، ونحن نستمتع بتلك الإطلالة المفعمة بالجمال والهدوء.
تحرّكنا من المطعم في الثانية من بعد الظهر قاصدين متحف التزلج و"برج هيلمنكولن" الذي يحمل المطعم اسمه، ويرتفع البرج شامخاً على إحدى أعلى القمم المطلة على "أوسلو"، ويضمّ في طبقته الأرضية متحف التزلج الذي يعرض نماذج من أدوات التزلج منذ مئات السنين وبعض الحيوانات النادرة التي تعيش في تلك الأجواء، ومنه انتقلنا بواسطة مصعد خاص إلى أعلى قمة البرج (420 متراً فوق سطح البحر) لنشاهد ذلك الصرح الرائع لحلبة التزلّج التي تحتضن أهمّ بطولات العالم للرياضات الشتوية، وتطلّ على مشهد مذهل للمدينة التي تعد ثاني أهمّ مدينة للعيش الرغد في العالم.
"أبو المسرح"
عدنا بصحبة مرافقنا جي آر لننعم بتخزين صور لا تنسى لتلك الطبيعة المدهشة التي تجمع الغابات والجبال بأشجارها وورودها والبحيرة الهادئة التي تتوسط المكان، لنحطّ رحالنا في وسط المدينة تقريباً أمام "متحف إبسن"، وهو المكان الخاص بالمسرحي والشاعر النروجي هنريك يوهان إبسن (1828ـ 1906)، والذي يعرف بـ "أبو المسرح الحديث".ويضمّ المتحف قسمين: الأول في الطابق الأرضي، ويحتوي على مخطوطات وأدوات خاصة بالشاعر وثيابه التي اشتهر بها (المعطف والقبعة)، إضافة إلى كل ما يوثّق حياته وأعماله، والثاني في الطابق العلوي وهو بيت إبسن الذي عاش فيه، وقد أعيد ترميمه وتجديد محتوياته بكل تفاصيلها، وهناك تعرّفنا إلى أدقّ ما يعكس شخصية ذلك المبدع وطريقة حياته.
وتخليداً للكاتب العظيم فقد تمّ وضع عبارات تدلّ على طريق خطواته من منزله إلى "غراند كافيه"، المقهى التابع للفندق الذي استضافنا، إذ كان إبسن يمشي يومياً من منزله إلى هناك ليقرأ الصحف ويحتسي قهوته، وقد يكتب شيئًا من إبداعاته.
تسوّق مغرٍ
بعد عودتنا إلى الفندق، كان لا بدّ من جولة تسوّق مغرية حيثُ التنزيلات في معظم المحلات وعلى الماركات العالمية المختلفة في شارع كارل جوهانس، والسير أحياناً بالاتجاه الآخر حتى الوصول إلى القصر الملكي المستقر فوق هضبة في نهاية الشارع المذكور.
في المساء، كنا على موعد للعشاء في إحدى أحدث وأهمّ المناطق المعمارية الحديثة في "أوسلو" والواقعة على البحيرة، وتعدّ الرابط إلى اللسان البحري القادم من بحر الشمال، وتلك المنطقة تزخر بالأبنية ذات التصاميم المعمارية الحديثة للغاية، والقنوات التي تفصل بينها والمطاعم المتنوّعة المنتشرة هناك.
وقد انتقى لنا مضيفونا في أوسلو مطعم «"فور سيتغرابن" للمأكولات البحرية، وهو من أشهر وأرقى المطاعم في العاصمة. ومع نسمات الليل الباردة، قصدنا فندقنا في مشوار ليلي لطيف بعد تلك الوجبة الشهية لنمنح أجساداً قسطًا من راحة قد تفيدنا في اليوم التالي.
من "فيغلاند" إلى السندباد
مثل الصباحات السابقة، كان لنا موعد صباحي آخر مع القهوة والإفطار المنوّع في "غراند كافيه" داخل الفندق استعداداً لجولة اليوم قبل الأخير. ومع بداية تسلّل الدفء إلى الشوارع، خرجنا باتجاه الحديقة الأشهر "فروغنر" التي تسمّى أحيانًا "فيغلاند"، إذ تضمّ أكثر من 150 عملاً نحتياً بديعاً لغوستاف فيغلاند، وهو من أشهر نحاتي النروج، وتتوزّع على الجسر وحول البرك والنوافير على امتداد مساحة 80 فداناً من الخضرة والأشجار والورود التي تدغدغ الروح وتعزف للنفس ألحان الخلود والسكينة!
انتقلنا بعد ذلك إلى نشاط مختلف، فقد كانت بانتظارنا رحلة على متن إحدى السفن السياحية لا تقلّ دهشة عن رحلات السندباد البحري، إذ عبرت بنا بحيرة "أوسلو" على مدى ساعة من الزمن استمتعنا خلالها ببانوراما رسمتها الطبيعة، فتجسّدت جبالاً خضراء ومياهاً رقراقة وسطوح قرميد وطيور نورس ووجوهاً طيّبة فاتنة.وعلى متن تلك السفينة الفارهة، اطلعنا على الخدمات الرفيعة التي يمكن أن يحظى بها السائح في جولاته على متن مثل هذه السفن التي لا يقلّ مستواها عن فنادق خمس نجوم.
وحين رست السفينة بعد عودتها، كانت أمامنا زيارات أخرى للمتاحف، فعرّجنا على "متحف الفايكنغ" الذي يعرض سفناً استخدمها الفايكنغ منذ نحو ألف سنة مضت، و"متحف التاريخ الثقافي".
ختامها مسك
عند الواحدة والنصف من بعد الظهر، رجعنا إلى الفندق لتناول الغداء في "غراند كافيه"، ثم خرج كلّ منّا في طريق ليقوم بجولة حرّة بين الشوارع والساحات، ويتعرّف إلى الناس تارة، ويقف ليستمتع بمعزوفات العازفين المنتشرين على امتداد الشوارع وفي الساحات.
عشاؤنا الأخير، كان مسك الختام، إذ تمّ اختيار مطعم "إيكبيرغ" الشهير ليكون مضيفنا، وقد نقلتنا الحافلة الصغيرة الفارهة إلى هناك عبر الطرق الجبلية الضيّقة لتوصلنا إلى ذاك المكان الساحر على قمة عالية تطلّ على بحيرة "أوسلو" والتي تعكس أضواء ما حولها بأطياف لونية مذهلة لتكتب أبيات شعر تفوق قصيدة غزل قيلت بامرأة فاتنة نادرة، وفي أحضان تلك المشاهد البديعة تذوّقنا أشهر وألذّ الأطباق النروجية، والتي قدّم شرحاً مفصّلاً عنها "الشيف" المسؤول عن المطبخ بأسلوب لطيف ومرح ومحبّب إلى القلب.
وفي طريق العودة، كان لابدّ من الاطلاع على حياة الليل في "أوسلو" خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع حيثُ المدينة لا تنام حتى خيوط الفجر الأولى.
اليوم الأخير في رحلتنا التي حفرت تفصيلاتها في الذاكرة عميقًا، كان مشابهاً تماماً ليوم سفرنا، فقد حزمنا حقائبنا وغادرنا الفندق بمثل ما استقبلنا به من ترحاب، لكن عيون سماء "أوسلو" أبت إلا أن تودّعنا بدمعها السخيّ، وعدنا لنخوض تجربة الدلال والرفاهية على الخطوط "القطرية" طوال ساعات السفر.