جدّدي خيالك في «ماساي مارا»

لم تكن فكرة السفر إلى «كينيا» مشجّعة بدايةً، لما يحمله الذهن الجمعي من أخبار لا تسرّ الكثيرين عن «القارة السمراء»، فطلبت التفكير بالأمر للتحدث مع الفريق المسافر معي، فقال أحدهم: «قد تسافرون وتجدون حجزكم في فندق فخم بأي وقت، ولكنكم لن تفكروا أبداً بالذهاب إلى مخيم لقضاء ليلة وسط وحوش الغابة!»، الإجابة فيها شيء من الإثارة...

حُزمت الأمتعة والملابس التي تفاوتت بين الصيفية نهاراً والشتوية المعتدلة ليلاً لتتناسب مع المناخ الاستوائي، وكانت الانطلاقة من «مطار أبوظبي».

بحثت مع أصدقائي عن موقع سفارة الإمارات في «نيروبي»، فتبيّن أنّه لا سفارة إماراتيّة فيها. كان هذا الأمر مقلقًا للجميع، ثمّ علمنا أنّها الرحلة الأولى لخطّ «الاتحاد» صاحبة الدّعوة، احتفالاً بافتتاح السفارة الإماراتيّة هناك، التي لم تكن بياناتها قد حدّثت بعد على الإنترنت!

كان على متن الرحلة الافتتاحيّة إلى «نيروبي» وفد من المسؤولين، بقيادة رئيس الشؤون التجاريّة لطيران الاتحاد بيتر بومغارتنر. وقد حطّت الطائرة فوق أرض «مطار جومو كينياتا الدولي» في «نيروبي». وهناك، فاجأنا النيروبيون باستقبال تحمل الزهور لغة التواصل فيه، علماً أنّ «كينيا» تحتلّ المركز الأوّل في تصدير الزهور إلى أوروبا. وبعد 45 دقيقة، حضرنا مؤتمراً خاصّاً مع صحافيين كينيين، رحّبوا من خلال أسئلتهم بالرحلة الأولى لخطوط الطيران، بحضور سفير الإمارات في كينيا عبد الرازق محمد هادي.

 

«ماساي مارا»

 غادرنا «نيروبي»، والتي تعني بلغة الماساي الإفريقيّة «مكان الماء البارد»، وهي المدينة الوحيدة في إفريقيا التي تجاور حديقة ضخمة للحيوان، وتبعد عنها 8 كيلومترات، وهي «حديقة نيروبي الوطنيّة»، وتمتدّ على مساحة 1672 كيلومتراً مربّعاً... إلى تلك المحميّة «ماساي مارا» كانت وجهتنا، لنعيش متعة رحلات «السّفاري» الكينية، وصلناها على متن طائرة مستأجرة، ذكّرتنا بأفلام جيمس بوند، فغالبيّتنا لم يسبق له صعود طائرة تتّسع لـ 12 شخصاً، وتعالت ضحكات الصّحافيين، وسرح خيال بعضهم، فقائدة الطائرة فتاة كينيّة، بينما المسافات الشّاسعة التي نحلق فوقها مليئة بالأسود والنمور!

فور وصولنا، كان الجو يميل للبرودة، حُملت أمتعتنا إلى مخيم Governors لصاحبته البريطانيّة كاتي ماكلين، وبدأت على الفور جولتنا في تلك المحميّة المليئة بالحيوانات: كنّا على مقربة من الحدود مع «تنزانيا»، وتمّ توزيعنا على سيّارتين مكشوفتين، السّائق وخبير الحيوانات كان كينياً يُدعى موسى، نظره الحادّ يكشف له عائلات الأسود من على بُعد لا يمكن تصديقه. كان يقود السيارة نحوها، ثم يقف بهدوء طالباً منّا الامتناع عن إصدار أصوات تثيرها، وراح يعرّفنا على عاداتها... أحد الأسود كان مجروحاً في جبينه، فعلّق موسى: «بالتأكيد، إنّ أسداً آخر حاول أخذ زوجته منه!».

نظر إلينا برفق لم نكن نتصوّره، ثمّ توجّهنا ناحية قطعان الثيران البريّة (البوفلو)، كان الاقتراب منها غير مستحبّ، لأنّها تسارع إلى الهجوم بشكل عشوائيّ، ومن قطعان حمار الوحش إلى الزرافات والطيور الغريبة التي تموت فيها الأنثى، إذا فارق طائرها الذّكر الحياة فوراً! افتخر موسى جدّاً بطباع إناث الطيور تلك، احمرّت عيناه كأنّه يتحدّث عن المرأة الكينية، حماسه أضحكنا، فأخبرناه بجدّية أنّ طيور بلادنا لها عكس هذه الطباع، فإذا ماتت الأنثى يقتل الذّكر نفسه، بعدها بدقائق، ولم يبدِ إعجابه بما سمع، لكنّه رفض اصطحابنا إلى أمكنة وجود النّمور لأنّها مخلوقات هجوميّة، لا يمكن أن تُضمن ردود فعلها، حتّى لو كانت ممتلئة المعدة!

عندما وقفت السيّارة بجانب مستنقع مياه مفروش بالزّهور وأوراق الشّجر الخضراء، لم نتصوّر أن يمدّ فرس النّهر رأسه الضّخم، معرباً عن انزعاجه من صوت المحرّك، ما دفع موسى للانطلاق فوراً من المكان.

 

مخيّم الأحلام

عندما أخبرونا أنّنا سنقيم في خيم، تصوّرنا حالة بدائيّة، لكنّنا فوجئنا بتجهيزات تؤمن الراحة الكاملة، أضواؤها خافتة جدّاً حتّى لا تجذب الحيوانات حول المخيم، وكان لا بدّ من وصول كلّ صحافيّ إلى خيمته برفقة حارس مسلّح ببندقية، لو اقتضى الأمر، مع أنّ قتل الحيوانات ممنوع منعاً باتاً، وتغيب الهواتف والجرس لطلب الحرس، بل إنّ أيّ إضاءة معيّنة داخل الخيمة تجعل الحارس يهرع إليك ليوصلك إلى المطعم الذي تقرّر اجتماعنا فيه. وقبل الموعد الذي قارب الثامنة مساءً بدأت الأمطار الاستوائيّة بالهطول، فهرعنا إلى المطعم... هناك كانت نيران الشواء موقدة، جلس حولها سوّاح ينتمون إلى جنسيّات أوروبيّة واسكندنافيّة، وعلى العشاء كان السّمك المشويّ، مع صلصة معدّة على الطريقة الكينيّة الخيار المفضّل! وفجأة سمعنا «زعيقًا وعويلاً»، فاعتقدنا للوهلة الأولى أنّ أحدهم التهمه نمر، لكنّها كانت قبائل «الماساي مارا» التي رحبت بنا على طريقتها، ورقصت بين الطاولات، ثمّ تمّت دعوتنا لزيارة مكان إقامتها في الصّباح الباكر.

لم يكن السّهر مفضّلاً عند الفريق بعد سفر يوم متعب، فاخترنا الذّهاب إلى خيامنا، بعضنا كما علمنا منه صباحاً لم ينم، وهو يسمع زئير الأسود، فيما بعضنا الآخر غطّ في نوم عميق، مطمئنًا في مخيم مسيّج ومملوء بالحرس. لكنّ ما حدث ليلاً جعل أغلبنا يضيء مصباحه منادياً الحارس، فقد اقتحم فيل سياج المعسكر الجانبيّ، وظلّ مدرّبو الحيوانات يهدّئون من روعه إلى أن أخرجوه منه!

 

«القبيلة المرقطة»

 في الصباح، وبعد جولة أخرى في السيّارة بين الحيوانات المفترسة، والتي جزم مرشدونا أنّها تناولت طعامها ليلاً، قمنا بزيارة قبيلة «الماساي مارا»، وهي من أشهر القبائل الإفريقيّة وأشدّها بأساً، ويعني اسمها بالعربية «القبيلة المرقّطة»؛ ورغم عيشها في البراري والأدغال، إلا أنّها مسالمة مع السوّاح الأجانب، وتسمح بزيارة قراها مقابل رسوم ماليّة (25 دولاراً أميركيّاً للشخص الواحد)، فهي تعيش من هذه الأموال، وعلمنا من أحد أفرادها، والذي يتكلم اللغة الإنكليزية، أنّهم يستغلّون تلك الأموال في شراء لوازمهم وتعليم أبنائهم في القرى المجاورة. وتعتقد القبيلة بغالبيّتها أنّ الإله «إنكاري» يعيش على فوهة جبل «كلمنجارو» البركانيّة، وأنّه قد نزل من السّماء وأنزل الأبقار معه ووهبها لأفراد هذه القبيلة، لذا يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين أفراد قبيلة «الماساي» والأبقار، والتي قد تنام معها في أكواخها الطينيّة المعتمة، خوفًا عليها من هجوم الحيوانات المفترسة.

لفتنا بين رجال «الماساي» رجل طويل القامة، وضع على رأسه فروة لحيوان، كان قد فقد عينه، وعلمنا أنّ هذا الرجل شجاع قتل الأسد الذي هاجمه بسكينه، فصارت له مكانة خاصّة في القبيلة.

اقترب منّي وخلع سلسلة من سلاسله الخرزية وألبسني إيّاها، برقت عيناه ثمّ قال برفق: «كم تدفعين ثمنًا لها؟»، سؤاله أضحك الفريق، وتناثرت التعليقات في جو من البرد الاستوائيّ، ثمّ رقصنا مع نساء «الماساي»، واشترينا من بضاعتهنّ التي يصنعنها بأيديهنّ، وعدنا إلى المخيم حيث تناولنا الإفطار، واستعددنا للعودة بالطائرة المستأجرة إلى «نيروبي»، محمّلين في ذاكرتنا مغامرةً قد لا تُكرّر!

عدنا إلى «نيروبي»، واستعددنا لحفل خاصّ أقامه «طيران الاتحاد»، امتاز بطابع عربيّ، اصطحب معه «فرقة اليولة الإماراتيّة» التي لفتت الأنظار بأدائها. وفي الصباح، بعد جولة في شوارع «نيروبي»، كان موعدنا في المطار، والعودة إلى مطار أبوظبي.

عند سفرك إلى «ماساي مارا» يُنصح باصطحاب ملابس خفيفة، ذات ألوان غير لافتة، وأحذية مريحة، وسترة صوفية (يكون الطقس بارداً في فترتي الصباح والمساء)، إضافة إلى مستحضرات صيدلانيّة طاردة للحشرات، وآلة تصوير، ومنظار مقرّب، وحقيبة أمتعة لا يتجاوز وزنها 15 كيلوغراماً للشّخص الواحد، وذلك بعد اتّخاذ الاحتياطات اللازمة لتفادي الإصابة بالملاريا.