المشهد الأول..
إطلالات لا تتجزأ من الحبكة الدرامية.
وجوه مألوفة لا يمكن الاستهانة بها على الإطلاق، تَتوافد إليَّ تِباعاً، تَمُر مِن النوافذ والجُدران قبل الأبواب.
هؤلاء من التقيتهم يوماً... أتذكرهم... مهما حاولت الأيام دفعي للنسيان.. أتذكر كلماتهِم... حركاتهم...غمزاتهم وهمساتهم.
أتذكر حتى تعبيرات وجوههم في عيني... جميعهم حاضرون.. هنا نعم هنا… ربما محت الأيام شيئاً من ملامحهم.. فصاروا جميعاً نُسخةً واحدة.. صورةً لا يُمكنك التفريق بينها وبين الأخريات.. لَكِن هُناك اختلافاً لن يُنسى.. إنها الأفعال يا عزيزي، وكيف أنسى..
فمنهم من أكمل معي الطريق لنهايتهِ.. لَمْ يتركني... ولم يَمل الوقت، والظروف، والأيام.. والأسباب، ومنهم من تركني عِند أول مُفترق.. ابتعد من دون مُبررات مُقنعة.. وتحجج بأبسط الأسباب حتى يرحل.. وكم قلوب رحلت بلا سبب، تركتنا قبل نهاية الطريق لا نعلم كيف هي العودة ولا كيفية المتابعة إلى النهاية.
نقف أياماً وربما سنوات، لا نحرك ساكناً ولا نتغير نحن مثل ما نحن بالأمس، وقبل الأمس، وحتى الغد، بسببهم.
أتذكرهم جميعاً.. كانوا هُنا يوماً ما.. كانت أيديهم تُعانق يدي، وتصافحني حينما أكون وحدي.. ورونق دعواتهم يتطاير من حولي كأنني الوحيد المعني "بالحياة". الذكريات لا تُمحى مهما حدث.. نَظن أحياناً أنها قد اندثرت في غبار الزمان.. لَكِن الحقيقة المُرّة.. أن تِلكَ الذكرى ترسو في القاع لسنوات.. وفي لحظات الحنين والوحدة والاحتياج تطفو على السطح.. فتُعيد الماضي برمتهِ.. بكل تفاصيله بالثانية التي تليها ثواني فساعات وأيام.
تُعيد كُل ما مَر.. غير مُدركة وَقع تِلكَ الذِكريات على عقولنا..
المشهد الثاني..
تأتيني ذِكرى الحنين إلى الحُب.. نعم الحب. ففي يومٍ ما.. وعلى سبيل الحقيقة التي كنت أعيشها، كان قلبي يمتلئ بالحُب النقي..
كان بريئاً لا يعلم ما هو آتٍ.. جميعنا نولد بقلوب بريئة نقية بلا لون سوى لون الوريد والشريان، وعقول لم تُبرمج بعد إلا على فطرة الحب ما بين الأم والأب.
وقلب يُحِبُّ كُل من هو قريب.. فتَراني أبتَسِم برِقة للجميع.. غير مُكترث لما يحملونهُ لي في دواخلهم.. كان حُباً صادِقاً لا يُقدر بثمن! أما الآن.. فقد نفدت مُدخراتي من الحُب.. وأصبح قلبي خاوياً لا يَحمل شيئاً.. لا حُب.. لا كُره.. لا رغبة في تبادل المزيد من المشاعر مع آخرين.. أتعلم لماذا؟ كُنتُ أرى الحُب كالنهر النقي... كالـشمس المُشرقة.. كصفاء السماء في ليالِي الصيف.. ولسعات برد الشتاء، وتطاير أوراق الخريف الذهبية، وألوان الأزهار من حولي متطايرة مع تطاير الفراشات في فصل الربيع. كالقمر حين يكتملُ بدراً، فتراه واضحاً مهما احتشدت حوله الغيوم..
كُنتُ أرى الحُب هو الخلاص.. هو الصَرح المُمهد لكُل البشر.. هو الخلود.. فيُنبِتُ فيهِم نفساً غير النفس، ونبضاً يتراقص كلما صرخ إحساساً وشعوراً كان "يتألم أو يتعافى، وربما فرحاً".
الحُب هو مأوى التائهين في الحياة.. هو الملاذ الآمن لِكُل ضالٍ طريقه.. هو القِبلة الصحيحة للنجاة من فوضى العالم.. فوضى بنيت ليس من قلوب البشر، بل أفعالهم. الحُب هو المشاعر في صورتها المثالية.. فكم من المشاعر حولنا زائِفة.. مُصطنعة.. لا تَرقى للدخول في دائرة الحُب.. ولا تندرج تحت قائمة الجمال..
أتعلم أشد ما يُخيفني في تلك الحياة.. حين يتغير الشيء إلى نقيضه.. حين تَرى بعينك الأيام تتبدل، والمشاعر تُغتال.. حين تتلون الوجوه المألوفة، فتضحى غريبة عنك.. يا لهُ من أمرٍ مُرعِب!
فكم رأيت من الحكايات تبدأ بالحُب السرمدي.. وتنتهي إلى طُرُقٍ مأساوية.. تِلكَ هي المأساة.. تبدُل القلوب والمشاعر حين نتعلق بِها ونَثِق.. حين نؤمن أننا ها قد وصلنا إلى بر الأمان.. ونُرسي سُفننا على شواطئ أحدهم.. فـتَجِدهُ ينزع المرسى، ويدفعنا إلى فوهة الدوامة.. لنلقى مصيرنا بعيداً.. مُغتربين أو غارقين..
وتسألني هل وثقت يوماً في أحد؟ سأجيبك: نعم.