الحِرَفُ اليدويَّة.. لمساتُ القلب التي تُضيءُ الحياة

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

في عالمٍ، يُسرِعُ بنا مثل قطارٍ لا يتوقَّفُ حيث تسيطرُ الآلاتُ، ويبهتُ كلُّ شيءٍ أمامَ وهجِ التكنولوجيا، تبقى الحِرَفُ اليدويَّةُ مثل نبضٍ دافئٍ وسطَ صقيعٍ رقمي، مثل نسمةِ صباحٍ، تُعيدُ إلى الروحِ هدوءها، وإلى القلبِ أملَهُ القديم.

أن تصنعَ بيديك يعني أن تُلامسَ الحياةَ بقلبك

حين تلمسُ يدُك الخشبَ، وتُحوِّله إلى منحوتةٍ، أو تمزجُ الألوانَ فوق لوحةٍ، أو تجدّلُ الخيوطَ، لتنسجَ قطعةً فنيَّةً، أنت لا تصنعُ شيئاً عادياً، بل تخلقُ حياةً جديدةً، تضيفُ لها من روحِك، وتمنحها بصمتَك التي لن تتكرَّر. ليس الأمرُ مجرَّد عملٍ فقط، إنه أيضاً احتفالٌ صغيرٌ بالإبداعِ، طقوسٌ صامتةٌ، تُحيلُ ما هو عابرٌ إلى ذكرى خالدةٍ.

الحِرَفُ اليدويَّة.. علاجٌ للقلب وروحٌ للزمن

في زمنٍ، تُسابِقُ فيه الأيَّامُ نفسها حيث تُفرَضُ علينا إيقاعاتٌ سريعةٌ، تُربِك الروحَ، تأتي الحِرَفُ اليدويَّةُ بوصفها ملاذاً هادئاً، مثل تأمُّلٍ، يُعيدُ ترتيبَ الفوضى داخلنا. حينما تنهمِك في تشكيلِ الطينِ، أو حياكةِ قطعةِ قماشٍ بدقَّةٍ، يتلاشى العالمُ الخارجي، تتوقَّفُ الضوضاءُ، ويصبحُ للحظةِ لونٌ، وصوتٌ، وشعورٌ. إنه أشبه بالاستماعِ إلى موسيقى، لا يسمعها أحدٌ غيرك، موسيقى تُشفى بها الجراحُ غير المرئيَّةِ، ويُهدَّأ بها ضجيجُ الأيَّامِ.

أملٌ يُنسج بين الخيوط ونورٌ يتسلَّل بين الألوان

ليس هناك أجملُ من لحظةِ الانتهاءِ من قطعةٍ فنيَّةٍ، صنعتها بيدَيك. إنها لحظةُ ولادةٍ جديدةٍ، إذ ترى أمامك شيئاً، لم يكن موجوداً من قبل، شيئاً كنت أنت سبباً في وجوده. هذا الشعورُ، ليس مجرَّد متعةٍ فقط، إنه أيضاً أملٌ خالصٌ، ورسالةٌ، تقولُ لك: إنك قادرٌ على صنعِ الجمالِ، وإنك تستطيعُ أن تُغيِّر الأشياءَ، وأن تمنحَ الحياةَ لوناً مختلفاً.

بين الماضي والمستقبل تبقى اليدُ تصنعُ الأمل

الحِرَفُ اليدويَّةُ، ليست مهارةً فقط، إنها كذلك لغةٌ، تنقلُ المشاعرَ بين الأجيالِ، وترسمُ الجسورَ بين الماضي والمستقبل. ربما تكون سجَّادةً يدويَّةً، حاكتها جدَّتك، أو صندوقاً خشبياً، نقشَ عليه والدك اسمه، أو قطعةَ خزفٍ، نحتها فنَّانٌ، لم يكن يعلمُ أن لمساته، ستبقى أبداً. إنها ليست مجرَّد أشياءَ فقط، إنها قصصٌ تحيا، تحكي عن الحبِّ، عن الصبرِ، وعن الأملِ الذي لا يشيخُ.

أصابعُ القلب تصنعُ النور

الحِرَفُ اليدويَّةُ، ليست رفاهيَّةً، هي نافذةٌ صغيرةٌ على روحٍ أكبر، هي الفنُّ الذي يلمسُ القلبَ قبل العين، وهي الذكرى التي لا تُمحى. حين تصنعُ بيدَيك، فأنت لا تصنعُ مجرَّد أشياءَ فحسب، بل وتزرعُ أيضاً دفئاً في الأيَّامِ، وتنثرُ الأملَ مثل ضوءٍ صغيرٍ في عتمةِ العالم.