موسيقى الحياة

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

على مسرحِ الحياةِ حيث تدورُ رحى الأيامِ بلا هوادةٍ، يقفُ الإنسانُ متأمِّلاً سيرةَ اللحظاتِ الفائتةِ، يفتِّشُ في طيَّاتها عن معانٍ ضاعت، أو أحلامٍ تاهت في زحامِ الواقع. هنا، في هذه الزاويةِ الهادئةِ من الكونِ، يبدأ الفصلُ الأوَّلُ من روايةِ إعادةِ ترتيبِ الحياةِ حيث كلّ كلمةٍ تلوحُ مثل نجمٍ في سماءِ الوجودِ، وكلّ جملةٍ تصدحُ مثل نغمٍ على أوتارِ الزمن.

تنسابُ الأيامُ مثل نهرٍ هادرٍ، تحملُ معها الأحداثَ، والذكرياتِ، تاركةً على ضفافِ الروحِ بقايا أفراحٍ وأتراحٍ. ومن بين هذه الفوضى، ينبثقُ ضوءٌ خافتٌ، يدعونا إلى ترتيبِ أدراجِ النفسِ بين الحينِ والآخر، لنفرزَ بين ما يُبقى وما يُرمى، بين ما يُحيي وما يُميت. إنها رحلةُ البحثِ عن الأصالةِ داخلنا، عن ذلك الجزءِ الخالدِ الذي يظلُّ صامداً في وجه العواصف.

في كلِّ خطوةٍ نخطوها نحو تجديدِ مساراتنا، نكتشفُ أن الحياةَ ليست سوى قصيدةٍ مفتوحةٍ، وموسيقى عذبةٍ، تتغزَّلُ بجمالِ الطبيعةِ، وتنتظرُ منَّا أن نملأها بالمعاني والألوان. نقطفُ من حدائقِ الأمسِ زهورَ الخبراتِ، ونغرسُ في تربةِ الغدِ بذورَ الآمالِ، فكلُّ زاويةٍ من زوايا قلوبنا تتَّسعُ لبستانٍ، يُزهِرُ بألوانِ قوسِ قزحٍ، إن رُويت بماءِ الإصرارِ ونورِ الأمل.

وكأنَّ كلَّ جزءٍ من حياتنا يمكن أن يكون لوحةً فنيَّةً حيث الألوانُ، هي أحاسيسُنا، والريشةُ هي إرادتُنا. نمزجُ الألوانَ بمهارةِ الفنَّانِ الذي يعرفُ كيف يحوِّلُ الظلامَ إلى ضياءٍ، والصمتَ إلى سيمفونيَّةٍ. إن إعادةَ ترتيبِ الحياةِ، هي فنُّ النظرِ إلى الألمِ بوصفه مُعلِّماً، وإلى الفرحِ مُرشداً، وإلى الحبِّ دليلاً.

في كلِّ لحظةٍ نقرِّرُ فيها أن نعيدَ ترتيبَ أدراجِ قلوبنا، نفتحُ نوافذَ الروحِ لتهبَّ عليها نسائمُ التجديد. ندعُ الضوءَ يغسلُ ما عَلِقَ بنا من غبارِ اليأسِ، ونسمحُ للهواءِ النقي بأن ينفضَ عن أرواحنا وهن السنين. إنها ليست مجرَّد تغييراتٍ تقليديَّةٍ في الأولويَّاتِ، أو العاداتِ، بل هي إعادةُ اكتشافٍ لماهيَّةِ الوجودِ نفسه، لجوهرِ الحياةِ التي نحياها.

وفي هذا السعي نحو الجمالِ والتناغمِ، نتعلَّمُ أن كلَّ نهايةٍ، هي في الواقعِ بدايةٌ جديدةٌ، تنتظرُ منَّا أن نكتبها بأحرفٍ من نورٍ. نتعلَّمُ أن الفشلَ ليس إلا منعطفاً، يُعيدُ توجيهنا نحو مساراتٍ جديدةٍ، وأن كلَّ خسارةٍ، هي فصلٌ، يُغلَقُ، ليُفتَح بابٌ آخرُ مليءٌ بفرصٍ لم تكن في الحسبان.

ألا يُعدُّ هذا كلّه سبباً كافياً لنحتفي بكلِّ لحظةٍ نتنفُّسها، لنرحِّبَ بكلِّ فجرٍ يطلُّ علينا؟ إن إعادةَ ترتيبِ الحياةِ بكلِّ ما تحمله من تحدِّياتٍ وإبداعاتٍ، هي اللحنُ الذي يدوِّي في صمتِ الأرواحِ. يُذكِّرنا بأن كلَّ ضربةِ قلبٍ، هي نغمةٌ في أغنيةِ الوجودِ، وكلَّ ذرةِ هواءٍ، هي جزءٌ من اللوحةِ الكونيَّة التي نحياها.

فلننهض إذاً، لنرتِّب ما تبعثرَ من أحلامٍ وأمانٍ، ولنعزف من جديدٍ على أوتارِ الحياةِ ألحاناً، تسرُّ السامعين، وتملأُ الدنيا بألوانِ الفجرِ الجديد.