في زحمةِ الحياةِ، ومشاغلنا التي لا تنتهي، نجدُ أنفسنا، مع ذلك، نعبِّرُ عن الامتنانِ لأمَّهاتنا بكثرةٍ، وللمرأةِ دوماً، وهذا أمرٌ جميلٌ، ومُستحقٌّ بلا شكٍّ، ففي الأثيرِ المفعمِ بأريجِ الحياةِ، تغزلُ الأمومةُ ثوبها الفاخرَ بخيوطٍ من نورٍ وحنانٍ. في المقابل، وفي كثيرٍ من الأحيانِ، يظلُّ الأبُ، ذلك البطلُ الخفي، والركنُ الصامدُ في بناءِ الأسرةِ بعيداً عن الأضواءِ، مُغيَّباً عن واجهةِ التكريمِ والاحتفاءِ، بل لا يسألُ "مكتفو السعادةِ" من حوله تكريماً له!
حصنٌ منيعٌ، يطوِّقُ الأسرةَ بسواعدَ من عزمٍ وصبرٍ. يُغمضُ العالمُ عينَيه عن تضحياته، وتبقى قصائدُه التي لا تُغنَّى خافتةَ الأصداءِ في ردهاتِ النسيانِ! ليأتي "يومُ الأبِ"، أخيراً، مثل نسيمٍ عليلٍ، يُعيدُ إلى الأذهانِ سيرةَ القائدِ الهادئ، والوالدِ الصابرِ، والسندِ الذي لا يهوي.
"يومُ الأبِ"، ليس مجرَّدَ مناسبةٍ تقليديَّةٍ. إنه فرصةٌ لنغوصَ في أعماقِ ذلك الحبِّ الذي يخفتُ ضجيجه بين صرخاتِ الحياةِ اليوميَّةِ، ضجيجٌ محفوفٌ بالتفكيرِ، والمسؤوليَّةِ، والعملِ الدائمِ من أجل الغيرِ، وليس النفس. هذا اليومُ، ليس يومَ تكريمٍ فقط، بل ونحتفي فيه أيضاً بذلك الحضنِ الذي يجمعُ بين القوَّةِ والحنانِ، وتلك العيونِ التي تراقبُ من بعيدٍ، وتحرسُ بصمتٍ، وتلك اليدِ التي تمتدُّ لتربِت على الأكتافِ في لحظاتِ الشدَّة، وتبني بناءً بلا طوبٍ، أو إسمنتٍ، بل بالقيمِ والمبادئ. نحتفي اليومَ بالأبِ الذي يتحوَّلُ إلى ملاذٍ في أوقاتِ الحاجةِ، وإلى قدوةٍ في لحظاتِ الاقتداءِ.
وما يجعلُ "يومَ الأبِ" مميَّزاً تلك اللحظاتُ الصغيرةُ العابرةُ التي تتراكمُ لتصنعَ ذكرياتٍ دائمةً. نعم، لم أصنعها معه، بل صنعتها مع أمي، وإخوتي، وكم تمنَّيتُ أن أصنعها معه رحمه الله, لكنْ أنت صنعتها مع أبيك، صنعت ذكرياتٍ بسيطةً، لكنَّها عميقةُ الأثرِ. قد تكون حينما علَّمكَ كيف تتقنُ حبالَ العزيمةِ والصبرِ، أو في نصيحةٍ مضيئةٍ، أنارت دربكَ في لحظاتِ الحيرة، أو في مراقبةٍ صامتةٍ، تحملُ في طيَّاتها أبعاداً من الحبِّ والاهتمامِ، من السعادةِ، أو الحزنِ، من الغضبِ، أو الرضا. ربما كانت في طريقةِ تعليمكَ ركوبَ الدرَّاجةِ، أو في رأي قدَّمه لكَ على عتبةِ قرارٍ مصيري، أو في صمته الذي يحملُ خلفه ألفَ كلمةٍ وكلمةٍ، بين عتابٍ وسكوتٍ، بين سعادةٍ وهمٍّ. لحظاتٌ ممزوجةٌ بالمشاعرِ والأفكارِ والأمنياتِ. هل ما زلت تصنعُ ذكرياتٍ جديدةً مع أبيك، أم أنك اكتفيت، انشغلت، أم تناسيت؟!
الاحتفاءُ بالأبِ، هو تكريمٌ لصورةِ العطاءِ الذي لا يعرفُ الكللَ ولا الملل، هو احتفاءٌ بالتضحيةِ التي لا تطلبُ المقابل. إنه يومٌ، نعترفُ فيه بأنَّ لكلِّ معركةٍ يوميَّةٍ يخوضها الآباءُ دوراً بارزاً في نسجِ ملامحِ مستقبلنا. يومٌ نقولُ فيه للآباء: "شكراً لكم على كلِّ الليالي التي سهرتموها، وكلِّ القراراتِ التي وازنتموها بحكمةٍ، وكلِّ الأحلامِ التي زرعتموها فينا بحبٍّ".
دعونا نُخلِّدُ في ذاكرتنا صورةَ الأبِ بصفاتٍ لا تُضاهى، تماماً كما لا يُمكن مقارنةُ أي شيءٍ بجمالِ السماءِ عندما تكون مكتملةَ القمرِ، أو بروعةِ البحرِ حينما تتراقصُ أمواجه عند الشواطئ برقَّةٍ وقوَّةٍ.
نزفُّ الأقلامَ حبراً سخياً، لنكتبَ في مدحِ هذا الشخصِ الفريدِ، شخصٌ إن تحدَّث، تحوَّلت كلماته إلى نصائحَ ذهبيَّةٍ، وإن صمت، كان صمتُه عِظةً وحكمةً. هو النورُ الذي يبدِّدُ ظُلماتِ الحيرةِ، والسندُ الذي يُعتَمدُ عليه وقتَ الشدائدِ.
نخلِّدُ اللحظاتِ الجميلةَ، وما أكثرها: الابتسامةُ الأولى، الخطوةُ الأولى، الكلمةُ الأولى، وحتَّى الدرسُ الأوَّلُ في قيادةِ السيارةِ، أو الدرَّاجة. كلُّ هذه اللحظاتِ، على بساطتها، تُشكِّلُ لوحةً زاخرةً بالألوانِ، حيث كلُّ لونٍ، يمثِّلُ ذكرى عزيزةً، اختُزلت فيها مشاعرُ الحبِّ والعطاءِ. هذه اللوحةُ التي يرسمها الأبُ بعنايةٍ فائقةٍ، وقلبٍ مفعمٍ بالحنانِ، تظلُّ معلَّقةً في معرضِ الحياة، تزدانُ بها جدرانُ قلوبنا، وتضيءُ دروبنا في أحلكِ اللحظاتِ.
كلّ عامٍ وجميعُ الآباءِ بخير.