أبحث في هذه اللحظة عن قطرة ماء تنقعُ الغُلَّة، وتطردُ عني حرَّ هذا الصيف القائظ.
***
أبحثُ عن مطرٍ يروي هذه الأرضَ العطشى.
أبحث عن كلمةٍ لطيفةٍ تُخمدُ هذه النيرانَ المتأجِّجة، تُشعلها ألسنةُ مَنْ في أيديهم مقاديرُ الأمور ومصائرُ الأمم.
***
عن فراشةٍ أبحثُ، كي ترفعَني فوق جناحيها الى حيث لا تطأُ أقدام أو تحطُّ أحلام.
***
وأبحثُ عن لسانٍ دافئٍ، يروي الكلامَ البلسمَ لجراحِ النفس، وبصدقٍ وجرأة، ولا يتَستّرُ على المَثالب. وأظلُّ أبحثُ عن نسمةٍ منعشة، تحملُ الأملَ والحلم.
وعن رفقةٍ صالحةٍ لمسارِ الأيامِ الصعبةِ أبحث.
***
وفي هذه المسيرةِ الطويلةِ في صحراءِ الوقتِ، أبحثُ عن واحةٍ تُظلِّلني بفيئها، وأبْتردُ بمياهها.
وفي هذه المتاهةِ المستحدَثةِ من فضائياتٍ أصبحتْ خبزَنا اليومي، أبحثُ عمّا يُطيِّبُ النفسَ، ويُهدئ القلقَ مما هو آتٍ في مستقبل الأيام.
عن كلماتٍ تغرسُ التفاؤلَ والأملَ، وتطردُ اليأسَ من وجودي، سأظلُّ أبحث.
***
منذ الصباح الباكر يبدأ بحثي، وحالما يشقُّ الفجر، وتنطلقُ زقزقةُ أوّلِ الطيورِ الصباحية. وأنطلقُ برفقةِ ألحانِها، أتوسَّلُها كيْ تجعلَ النغمَ هنيئاً، والمسارَ سهلاً، وتُبعدَني عن قلقِ الليلِ الفائت، وما يُمطِرُنا به المتصارعون على القوّةِ والسلطان، من سمومِ أفكارهم.
***
وأظلُّ أبحثُ عن صوتٍ رقيق، ناعم؛
عن صوتٍ إنساني، يدفعُ بعيداً عن مساري، هذا التهديدَ والوعيد، يُواجهنا به الأقوياء، أو مَن يظنّون أنفسَهم كذلك، حين ينسون أنّهم ليسوا أكثرَ من حفنةِ تراب.
***
وعنكِ، أيَّتُها المهاجرة، أختي وصديقتي، أبحثُ اليوم؛ وقد باعدَتْ بيننا صُروفُ الدهرِ والحروبُ المتواصلة، ولا أعلمُ الكثيرَ عن أحوالك؛ وكنتِ، حتى الأمسِ القريب، أختَ الروح، ورفيقة الأيام في عُسْرِها ويُسْرِها.
***
وأبحثُ عن الشبابِ المتسرّبِ من بين أصابعي؛ ويوماً بعد يوم، يهربُ مني، وينأى، ويُذَكِّرني بأن الماضي لن يعود.
وأنتِ أيّتُها الأحلام التي كانت لي المَسْرى والمسار، والحافزَ الأقوى، يَدفعني الى النهوضِ من أجلِ تحقيقها؛ وأين هجرتِني ونأيتِ؟...
***
لكني ماضية في مسيرتي، أجتازُ صحراءَ الوجود، أبحثُ فيها عن قطرةِ ماء، عن كلمة، أواجهُ بها رشْقَ الرصاصِ وزحفَ العُدوان.
***
وأبحثُ عن الجمالِ الطبيعي، في حقولٍ تحوّلتْ بفعلِ التجاربِ العلمية، الى غُربَةٍ يعافُها الزرعُ ويهربُ منها الضَّرع.
***
وفي ظلمةِ الليالي، أمضي الى البحث عن نورٍ يهديني، فلا أبقى أخُبُّ في سُبُل الظلام من دون مُرشدٍ أو دليل.
وحين يستولي عليّ اليأسُ أمضي في البحثِ عن ذلك الإيمان العتيق، وقد غرستْهُ فيّ، ومنذ الطفولة، تلك الجدّةُ الطيّبة، التي تآلفت مع الحياة، وتآختْ مع كل ما هو إنساني في الوجود. وبرغمِ ما يقفُ بيننا من أزمنة، في إثر رحيلها عن هذه الفانية، فان نورَها لا يزالُ يهديني، وصوتَها يُرشدُني الى حسنِ المسار.
***
وأبحثُ، في تأمُّلاتي والأحلام، عن قاعدةٍ تَجعلني أقومُ بمثلِ الدورِ الذي لعبتْهُ الجدّةُ في حياتي، فأكرِّرُهُ مع حفدائي، وأكون لهم، مصدَرَ الحكاية، وصخرةً متينةً يبنون فوقها قصورَ أحلامهم، وإليها يركنون عندما تقسو الحياة، أو تغدرُ بهم الأيام.
***
وأبحثُ، بالتالي، وفي كل حركة أو سَعيٍ، عن جرعةِ إيمان تكونُ هي عكازي ومنارتي فلا أضلُّ السبيل، وأبقى سائرةً في نور الهدى والرجاء.