وللتسول فلسفات وشؤون!

في المشهد الأول، تسمع موسيقى حالمة، تنساب كحلم وردي، لتعانق أذنك في ذلك الصباح القارس البرودة، والعازف غارق في وصلته، لا ينتبه للملاليم التي تُرمى في قبعته، وبعد برهة ليست بالوجيزة، يتوقف، يلمّ قبعته التي امتلأت، ويقصد أقرب مقهى على الناصية، ليأخذ قهوة ساخنة ويحصي ما جادت به تلك الأيادي السخية هذا الصباح، وهذا النوع من التسول الموسيقي يعشقه الغرب ويدعمونه بملاليمهم.
في المشهد الثاني، وتقريبًا العاشرة صباحًا بعد توقيت غرينتش، تسمع صوت أحمد عدوية يلعلع ويزغرد أغنيته الشهيرة «البدر ساكن فوق وأنا لساكن تحت»، وما إن تصل إلى مصدر الصوت، حتى تسرق نظرك صور بارزة بالحجم الكبير، ومصففة على الأرض، لتخبرك بقصة حياة شخص، ومشواره الطويل في مسح الأحذية عبر قارات كل العالم، العربي هذا قام بمسح أحذية كل الجنسيات، ابتداءً من أحذية جحافل البيت الأبيض، إلى قساوسة روما، وملحدي الدانمارك، وأخيرًا حط رحاله أمام محل ألماني، ليمسح أحذية حفيد النازي، يا للتواضع، ماسح الأحذية هذا كان يتسوّل قوت يومه بمسحه أحذية أناس يكنّون لنا الحب والولاء، وهذه حقيقة، قبل أن تمنعه زوجته من جنسية عربية أخرى «يا هي يا مسح الأحذية»، أنا لا أرى عيبًا في الكسب الحلال، حتى ولو كان مسحًا للأحذية، رغم أن صيت الحذاء المسكين لوث منذ واقعة الزيدي، فالأول مسح أحذية أناس نعشقهم، والثاني رمى حذاءه في وجه شخص نموت في صبابته. هذان مشهدان من حياة التسول الحضاري، حين كان العالم يعيش في سلام ووئام، وقبل أن يدخل الغجر النازحون إلى بزنس التسول، ويطوروه بشكل منظم وعلى درجة عالية من الحرفية، والتي كان ومازال يجيدها فقط متسول بلدي، ففي بلدي حين أنزله، ينتابني إحساس غريب بالغبن، هل سكان مدينة بأكملها تحولوا إلى متسولين؟ كل شرائح المجتمع، بكهوله ونسائه وأطفاله، فالجارة «أم هنية» مثلاً، والتي تعيش مع ابنها، ضبطتها خالتي تتسول في آخر بقاع المدينة، رغم أن ابنها مجبر على كفالتها، وهناك «أم راضية» امرأة مسنة تقطن في حينا، أنا شخصيًا أعذر لجوءها إلى التسول لتعيش، خاصة أنها لم ترزق بأطفال، وترملت منذ سنوات، وهذا يدفعني مرارًا للتساؤل: ألم يكن يروى لنا ونحن صغار، عن شيء اسمه بيت المال، وعن الوالي الذي يطّلع على أحوال رعيته في الظلام الدامس؟!

الطامة الكبرى أن حمى التسول لم تعد مقتصرة على الأناس العاديين، بل انتقلت إلى الحكومات والأشخاص البارزين، ولست أدري كيف يقع ذلك «وأنا التي لا أفهم في الاقتصاد حتى ولو اسمه»، شخص ينهب من شعبه ليغتني، وبعد ذلك يذهب ليتسول باسم شعبه الكادح، اتركونا أحسن في التسول البشري، ولندع التسول السياسي والاقتصادي حتى لا تتعكر أمزجتنا.

المهم، عمليات التسول يكتب لها سيناريوهات، ولا في الأفلام العالمية، فـ«أم هنية» التي اكتشفتها خالتي، تشحذ في آخر الدنيا، ضبطتها مرة أخرى وهي تتسول بأطفال ابنها، وبذكاء خالتي المفرط، عرفت أن العائلة بأكملها تدير في الخفاء عصابة متسولين، ولهم أماكن محظورة على إخوانهم من المتسولين الغرباء، فـ«أم هنية» تمشي مستندة على طفلة من جانبها الأيمن، وتستند على عصا أطول منها على الجانب الأيسر، والطفلة تبسط يدها لما يجود به المحسنون، والأدهى من ذلك أنهم لا يقبلون أي نوع من الصدقة، فالصدقة يجب أن تكون قرشًا و«عش رجبًا تر عجبًا!»، وهذا هو العجب بعينه، لقد أصبح التسول بشروط.

وهنا تحضرني واقعة عشتها أمام عيني شخصيًا، تقدم رجل لم يتجاوز الأربعين من عمره، لامرأة متسولة على أحد أبواب محطات القطار، وأعطاها ما جادت به يده، فلم يكن من هذه الأخيرة إلا أن رمت قروشه بوجهه، صائحة به، ومعللة ذلك بماذا ستفعل بملاليمه القليلة هذه!

الغريب أنه بمجرد أن يقف أمامك متسول، فأنت مجبر أن تعطيه شيئًا، وإلا سيلتصق بك ويعكر عليك تمتيع نظرك بالبضاعة، إذا كنت في حالة «شوبينج»، وإذا أردت أن تريح قدمك أو تروي ظمأك في محل أكل أو مشروبات، فلا تدري من أين يتحدفون عليك ويشاطرونك في عصيرك، لذلك أعتكف في بيت أمي كلما زرت وطني الحبيب الغالي. أعرف أنه من بين متسولي بلدي، أن هناك المتسولين الشرفاء والمحتاجين فعلا، وهذه حقيقة لا أنكرها حتى لا أكون ظالمة، لكن بالمقابل بينهم متسولون يلعبون على ذلك الوتر الحساس، الذي مازال يتمتع به أخي العربي، أو أختي العربية، «والحمد لله»، وهو العزف على قلوبهم الحية الرحيمة، فالتسول أصبح أعمالاً حرة تُمكّن من تكوين ثروات تحت مظلة «لله يا محسنين»، ومجمل القول: وللتسول فلسفات وشؤون.