سيرتُها أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع.
من قلب التاريخ العربي طلعتْ امرأة حكمت اليمن أربعين سنة. إنها أروى الصليحية.
وحكمُها، الذي دام من سنة 1098 حتى 1138، فرضَ هيبةً واحتراماً وسيادة من دون أن تفقدَ محبّة رعيتها.
<<<
كانت المرأة، في زمانها، ما تزال راسفة في أغلال الجهل، وقابعة في الزوايا المظلمة من الوجود، حين أطلَّ وجهُ أروى وسط الظلام مثل إطلالة نجمة، مؤكِّداً أن المرأة، حين يكون سلاحُها العلم وقوّة الشخصيّة والثقة بالنفس، يصبحُ بوسعها تذليل كلّ العقبات حتى تبلغ الهدف، مهما كانت السبل صعبة.
<<<
وُلدتْ أروى في مدينة عدن عام 1046. وكانت ما تزال طفلةً عندما توفي والدُها أحمد الصُلَيْحي، فكفلها قريبُها الملك، علي الصليحي. وعهد بتربيتها إلى زوجته أسماء. وكانت من أقدر نساء زمانها، ذات شخصية قويّة، وفطنة وشجاعة.
<<<
يروي مؤرِّخو سيرتِها أن أروى جاءت أسماء، ذات صباح وقالت لها: يا سيِّدتي، أبصرتُ في المنام أن في يدي مكنسة أكنسُ بها قصرَ الملك علي الصُلَيْحي.
أصغت إليها أسماء بإمعان قبل أن تجيب:
> كأنّي بكِ، يا أروى، قد كنستِ آل الصُلَيْحي وملكتِ عليهم أمرَهم.
> وقد أصبح هذا الكلامُ واقعاً حين وصلت الطفلة اليتيمة إلى سدَّةِ الحكم.
<<<
وكان من الطبيعي أن تختارَ الأمُّ الحكيمة، أسماء، زوجةً لابنها أحمد المكرّم، تلك الفتاة التي نشأتْ بين يديها، وخبرتْ عن قربٍ حُسْنَ أخلاقها، وقوّةَ ذكائها؛ فضلاً عن جَمالٍ لافتٍ يُضيفُ إلى حسناتِ الصبية وهي: «بيضاءُ البشرة، ورديةُ الخدّين، مديدةُ القوام، معتدلةُ البدن، كاملةُ المحاسن، جهوريةُ الصوت وتميلُ إلى السمنة».
وكانت هذه مقاييس جمال المرأة في ذلك الزمان.
وزُفَّتْ أروى إلى المكرّم وكانت في الثامنة عشرة من العمر. وجعل الملكُ الأب مَهرَها مدينةَ عدن.
<<<
انصرفت أروى إلى رعاية شؤون منزلها وعائلتها. وعندما انتقلَ الحكمُ إلى يد زوجها، المكرّم، بعد وفاةِ والده، صار يلجأُ إليها، ويستشيرُها في أمورٍ تخصُّ إدارةَ الدولة، وشؤونَها، وذلك لما عُرفَ عنها من صوابٍ في الرأي وتَعَقُّلٍ وحكمة.
وانتقلت العائلةُ المالكة من صنعاء إلى مدينة «ذي جبلة» لتقيمَ في قصرِ «دار العزّ».
<<<
لم تكن حياةُ أروى حياةَ دعةٍ واسترخاء؛ فمنذ أن فتحتْ عينيها على الوجود والمعارك تدور بين بني قومها. وعندما قُتلَ والد زوجها، الملك، في إحدى تلك المعارك، انتقلَ الحكمُ من بعده، إلى ابنهِ المكرّم. وهو أُصيبَ بدورِه في معركةِ «زُبيد» وكانت إصابةً بالغةً سبّبتْ له الشلل، فاحتجبَ عن الناس، وفوّضَ زوجتَه إدارةَ شؤونِ الدولة.
<<<
وهكذا تصدّرتْ أروى واجهةَ الحكم بعدما كانت تحكمُ من وراءِ الستار، مكتفيةً بدورِ مستشارةٍ لدى زوجها.
وبعدما توفّي الزوج، ازداد شأنُها إذْ فوّضَ إليها الخليفةُ الفاطمي تصريفَ أمورِ الدولة، والوصايةَ على ابنها علي، ولي العهد، ولم يكن قد جاوزَ العاشرة من عمره.
<<<
كان الخليفةُ يعرفُ أروى، وما تميَّزتْ به من صفات. ويعلم أنها «امرأة فاضلة، ذات نُسْكٍ وورعٍ وفضلٍ وكمالِ عقل».
وهي قارئة، كاتبة، تحفظُ الأخبارَ والأشعارَ والتواريخَ وأيامَ العرب. متبحِّرة في علوم الدين، وهذا ما أكْسَبَها لقبَ «سيّدة ملوك اليمن»، و«وليّة أمير المؤمنين».
<<<
ارتقتْ أروى إلى مستوى المسؤولية، وبدأتْ أمورُ المملكةِ تنتظمُ حالما تسلّمتْ زمامَ الحكم؛ لكن تحدّياتٍ كبرى نهضتْ لها، خصوصاً وأن قاتلَ زوجِها ووالدِه، كان لا يزال على قيدِ الحياة. وقد تصدّتْ له في إحدى المعارك، وهزمتْه.
ولم يهدأْ لها بالٌ إلاّ بعدما استدرجتْهُ مع أفرادِ جيشِهِ وقضتْ عليه.
<<<
لكن انتصارَها لم يكتملْ، إذْ بدأتْ منازعاتُ الصُلَيْحيين والزواحيين فشُغلت بها فترة. ثم عملتْ على إنهاء الخلاف، بما لها من حكمةٍ وجدارةٍ في إدارةِ شؤونِ البلاد.
لكن سياستَها تلك لم تدمْ طويلاً إذ تصدّى لها السلطان الصليحي، سبأ، وراح يطالبُ بحقّه في تولّي أمور الدولة. وكادت الحربُ أن تقعَ لو لم يتدخّل الخليفة، واقترحَ أن يُعقدَ قران أروى والسلطان سبأ كي تُحلَّ المشكلة. وعارضتْ أروى طلبَ الخليفة بادئ الأمر، غير أنها عادتْ ورضختْ أمام الضغوطِ السياسية، وعُقدَ الزواج. إنما بقي زواجاً سياسياً ورفضتْهُ كرجل يكون زوجَها في المعنى الشرعي. وقد نجح هذا الزواج في تهدئةِ الأوضاعِ لفترةٍ من الزمن.
<<<
ما يجدرُ ذكرُه، أن أروى، إلى جانبِ حَزْمِها السياسي، اهتمّتْ بالمشاريع العمرانيةِ والاقتصادية. وأقامت شبكةَ مواصلات، وبنتِ المدارسَ والمساجد. وجرّتِ المياهَ إلى المدنِ والقرى. كما عُرفَ عنها احترامُها إيمانَ غيرها من المذاهب المختلفة.