أكياس الدولارات!


 

تخرجت من أحد المعاهد العليا، ولم تكن لديّ الرغبة في التوظف بإحدى المؤسسات في بلادي والحصول على راتب ضئيل في بداية حياتي، فقد سمعت ورأيت كثيرًا عن هؤلاء المغتربين الذين يمكثون في غربتهم ببلدان العالم، شرقاً وغرباً، سنوات قليلة، ثم يعودون راكبين سيارات حديثة وحاملين أكياس الفلوس! فطمحت أن أسافر مثلهم لأعود بعد غربة سنوات قليلة راكبًا إحدى السيارات، وظافرًا بأحد تلك الأكياس، ولكي أؤسس سريعًا مشروع حلمي الكبير؛ لذا لهثت كثيرًا وراء سماسرة مكاتب إلحاق العمالة بالخارج، حتى أخذت الوعد من أحدهم، واشترط عليَّ أن أدفع قيمة تأشيرة السفر خمسة آلاف، إضافة لألف أخرى هي قيمة أتعابه الشخصية، وبالطبع سيدبر والدي الموظف البسيط الحصول على تلك الآلاف، وبالفعل تمكّن سريعًا ذلك السمسار-ولما رآه مني من تجاوب- من حجز إحدى التأشيرات بوظيفة مدير محل على راتب شهري قدره ألفان، وقد سعدت وهللت لي أسرتي بأني سأذهب سنوات بسيطة وأعود حاملاً كيسًا مملوءًا بالدولارات، لأوزع منه عليهم! وسافرت على تلك التأشيرة، وقد فوجئت بوظيفتي المرموقة وهي عامل «عتّال»، وبراتب ألف فقط، أي نصف ما تعاقدت عليه، وبإحدى المنشآت الصغيرة! وأبلغني صاحب العمل إما أن أعمل لديه هكذا، وبذلك الراتب كغيري من قدامى العتّالين، أو أعود من حيثُ أتيت.. ولأنني قد أغرقت والدي في الديون، ولما نصحني ذوو الخبرة بالتحمل، لذا صبرت وتحملت كد العمل، الذي لم أكن أتصور يومًا القيام به بعد سنوات تعليمي الطويلة، ومرّ على استمراري في ذلك العمل الشاق أكثر من عام، فيه ذقت مرارة الشقاء، وقد تعرفت على أحد مندوبي الشركات، والذي أبلغني أن المنشأة الكبيرة التي يعمل بها بحاجة لشخص يحمل نفس مؤهلاتي، رحت بكامل أناقتي لمقابلة مدير تلك المنشأة، وما أن رأى شهاداتي العلمية والتدريبية، حتى أبدى أسفه الشديد على حالتي، والعمل الذي أقوم به، وحصل على صور من مستنداتي لتقديمها لأصحاب المنشأة، كما قال، ووعدني ذلك المدير بالتعيين في أقرب فرصة، ولما بدا لي من نذير الفكاك من براثن العتالة، بعد تقدمي لتلك المنشأة الكبيرة، بدأت طبيعتي ونفسي تتمرد لرفض عمل «العتّالة»، فتارة أتغيب وتارة أتأخر، وإذا لامني المسؤولون علوت بصوتي رافضًا العمل، وأهرب للتقرب لمدير المنشأة التي آمل الالتحاق بها، فيطمئنني ويشد من أزري، وظللت هكذا حتى فصلني صاحب المنشأة التي ذقت فيها مرارة وشقاء عمل العتالة، فرحت فرحًا «متشيكًا» أبلغ مدير المنشأة الأخرى، الذي كان قد وعدني إن تخلت عني مؤسستي فسترحب بي منشأته، وفوجئت بمدير المنشأة يتعذر لي قائلاً:

- «متأسفين».. فقد كنا محتاجين لخبراتك ومؤهلك، ولكن للأسف قد عينّا آخر بدلاً منك!

- لكن سعادتك قد رحبت بي ووعدتني سابقًا!

- للأسف غير ممكن أن نعينك معنا، فالمؤسسة التي كنت تعمل بها عميل جيد لنا وننتفع منها كثيرًا، ولا نريد إغضاب أصحابها، لذا لا نصيب لك معنا!

- لكن حضرتك كنت تعلم جيدًا أنني أعمل بتلك المؤسسة من البداية!

- للأسف يا أخي إدارة المنشأة رفضت.. نحن آسفون!

والواقع، كما قال لي مندوب المنشأة الذي سعى لي في ذلك العمل، أنه اكتشف أن ذلك المدير أراد تعيين أحد أقاربه أو معارفه في تلك الوظيفة، وكان لابد من تقدم شخصين حسب قوانين منشأته، وقد حدث ذلك، فعيّن قريبه على الفور، وهي طريقة معروفة ومتبعة في تعيين الأقارب والمعارف! فعدت من غربتي الشاقة بعد أقل من سنتين كأني تخرجت للتو، خاسرًا كل شيء، ألهث من جديد خلف سماسرة السفر للحصول على فرصة عمل بدولة غنية، تساعدني لأعود من غربتي حاملاً حقائب وأكياس الفلوس!