الآن شعرت بالذنب تجاه والدتي، وأدركت كم كنت أنانية عندما رفضت بشدة أن تتزوج بعد وفاة أبي، وقد كانت في سن تحتاج فيها لرجل يقف إلى جانبها، ويساندها، ويؤنسها، وحكمت عليها أن تسجن في سجن الأمومة، وأنكرت عليها ممارسة حقها كإنسانة، ورفعت راية العصيان، وهددتها بترك البيت، وعدم رؤيتي مرة أخرى، واتهمتها في أعماقي بالأنانية، وعدم الوفاء لذكرى أبي، وبكيت، وتوعدت بأنها لو تزوجت لن تهتم بي، وستسعى لإرضاء زوجها على حسابي، وعليها ألا تنسى أني أحتاج إلى مشاعرها، ووقتها، وجهدها، ويومها، ومن المفترض أن أكون أنا مركز حياتها، فأنا وحيدتها، وليس لي في العالم غيرها، وبكل قسوة أخبرتها بأنني لو كنت مكانها، ومررت بنفس التجربة فسأرضي أبنائي على حساب نفسي، ولن أكون أمًا أنانية، ورضخت -رحمها الله- لرغبتي، وخافت عليَّ، وحرصت على مشاعري، ولم تتزوج، ووهبت عمرها لتربيتي، وتابعتني بكل اهتمام، ولم تقصر في كل صغيرة، أو كبيرة تخصني، وتزوجت بعد انتهائي من المرحلة الثانوية، ولم أنس يومًا أبدًا نظرة الحزن التي كانت تكسو ملامحها، والوحدة التي تنبع من أعماق عينيها، وعشت حياتي، استكملت دراستي بعد الزواج، وأنجبت ابني، ثم ابنتي، ووقفت إلى جانبي تشجعني، وتدعمني، وتهتم بابنيَّ، كانت لي الأم، والأخت، والصديقة، والحبيبة، وتوفيت -رحمها الله- بعد أن توظفت وكأنها -غفر الله لها- قد اطمأنت على مستقبلي، ودارت بي السنون، وتوفي زوجي بعد عشر سنوات من زواجنا، وأنا ما زلت في بداية العقد الثالث من عمري، ومرت السنوات، تذكرت كل ذلك بعد أن شعرت بحاجتي لرجل يحميني، ويساندني أنا وابنيَّ..رجل استظل بظله، وظلت الأفكار تلاحقني، والأسئلة تستفزني، فهل أكون أنانية في أن أعيش لنفسي بعض أيامي؟ وهل سيرتاح ضميري لو سلبت من ابنيَّ حقًا من حقوقهما؟
وبعد تفكير عميق، وبعد أن أعددت سيناريو مقنعًا، ومؤثرًا، وصادقًا لابنيَّ قررت أن أواجههما، لكنهما رفضا رفضًا تامًا، لحظتها شعرت بعمق الألم الذي سببته لأمي، وأحسست بقمة المعاناة التي عاشتها بصمت بعد أن وقف ابناي في وجهي مثلما وقفت في وجه أمي، وعشت لحظات الوحدة، والحرمان، واليتم العاطفي، بالتأكيد كما عاشتها أمي، وأقول لنفسي يا ليت أمي أصرت على موقفها، ووجدت من يؤنس وحدتها، ويشاركها مسؤوليتها، ولم أجعلها تعاني، نعم أشعر بالندم، ليس حزنًا على نفسي، ووضعي، وكياني، فأنا على الأقل لدي ما يشغلني، فعملي، ونشاطاتي الاجتماعية ستلهيني، لكن حبيبتي الغالية لم تكن لديها أي اهتمامات، لن أسامح قسوتي، وأنانيتي التي حكمت عليها أن ترضخ لقرار أناني عانت منه حتى آخر العمر، الآن استوعبت بالتجربة، والبرهان قول «كما تدين تدان».
همس الأزاهير
أماه معذرة.. قد خانني حلمي،
وقــد تكدر في أغصانه.. الثمر
أماه معذرة.. فالدرب آلمني
ومزّق الخطو مني الشوك.. والحفر
أماه! لا زلتِ ينبوعا.. يُغَسِّلني
لا زال من ديمتيْكِ الماء.. ينهمر
أماه معذرة.. بل ألف معذرة
جف اليراع.. وقـلبي قلْبُهُ سقرُ!!
رياض بن يوسف