أنانية

تغير مزاجها عندما سمعتهما يضحكان في غرفتهما. وكأن قصة البارحة كانت فصلاً من مسرحية هزلية. شعرت بأن ولدها يطعنها في ظهرها.

وضعت السبحة وكأس الشاي على المنضدة، وقامت تخرج إلى الحديقة.

جاء الدكتور مساء أمس، وقاس ضغطها، وكتب لها دواءً جديدًا، وتحدث طويلاً معهما. قلبها ضعيف. تحتاج إلى الراحة الشديدة.

طمأنه إبراهيم. سمعته يقول إن أحدًا لن يزعلها بعد الآن.

خرج يشتري لها الدواء. وأحضرت لها زوجته أعشابًا مهدئة.

سمعتهما يتشاجران. أمرها بأن تنفذ أوامر أمه بالحرف.

نامت مرتاحة. قبّل يدها قبل أن يأوي إلى غرفته. وطلب رضاها.

والآن. .. هما يتمازحان وكأن شيئًا لم يحدث. وخزها قلبها. ابنها الوحيد يدير ظهره لها، ويتسلى مع امرأته. . ينسى أنها مريضة، وضعيفة، ومسنة، وتحتاج إلى حضوره أكثر من غيرها.

كم مضى من الوقت وهي واقفة عند العتبة كالصنم؟ لا تدري. . مر بائع الحليب، وساعي البريد، وبعض الجيران، وداود الأحمق، ولم ينزلا. لم يفكرا في أنها قد تكون استفاقت، وتحتاج لمن يسأل عنها، ويقلق. تزايد غضبها، وعنت لها فكرة مجنونة. يفضلان الاختلاء لا بأس، ستحقق لهما ما يريدانه، وعلى الفور. . ارتدت معطفها، وأحاطت وجهها بوشاح الصلاة الدافئ، وخرجت وخطواتها تتسارع بتسارع دقات قلبها الضعيف.. لم تتناول الدواء. كانت تنتظر أن يأتيها ولدها به أول ما يستيقظ.

تمشت طويلاً. تركت رجليها تقودانها دون هدى. سمعت حديثًا قريبًا، ولم ترفع رأسها. واصلت مشيها والغيظ يخنقها.

هذا جزاء تضحياتها. زهدت في الدنيا وما فيها، من أجله. وها هو الآن يداعب زوجته ويتركها مريضة تتلقفها الطرقات. ثقلت قدماها، وتملكها الإعياء. تنحت جانبًا، وجلست على جزء من حائط قصير مهدم. حائط المقبرة.

تعالت أصوات قربها. نظرت حولها. داود الأحمق. ابن البلدة المعروف. يجول بعصاه بين القبور، ويحدّث نفسه بصوت عال: «قلت لهم سأطير. أنا جائع. وسأطير. وسنسبح معًا. . أين أنت يا أمي؟ أعطيني الدوااااااء! ». . أخذ يبكي كطفل صغير.

وتنهدت.. انهار منزل أسرته ذات شتاء. . قُضي عليهم جميعًا. . وبقي وحده. . فقد عقله. . وصار يروح ويجيء بين قبور أهله وطرقات البلدة، ويكلّم نفسه صباح مساء.

«أمييييي». . جاء يجري نحوها، وعصاه تحت إبطه. لم تستطع أن تتفاداه. أمسك يدها. ولفّها الظلام.

فتحت عينيها. ولدها إبراهيم يتطلع إليها بقلق، والطبيب قربه.

«لا تفعليها ثانية يا أمي. أبوس يديك. جاء بك داوود جثة هامدة. الله لطف بنا. .. ».

نظرت إليه. عيناه محمرتان، ووجهه شاحب.

«استيقظت أمي. .. » هلل داوود بفرح. التفتت إليه. ولمحت زوجة إبراهيم قربه، تبكي بصمت. تبكي حقًا. بل تنتحب.

شعرت بغصة في حلقها. وبكت أيضًا.