لم أعرف على امتداد حياتي وتجربتي الذاتية، غير مدينتين، هما: الناظور والرباط، لكنني عشت بينهما في مدينة فاس لمدة ثلاث سنوات، وبين الناظور وفاس والرباط، زرت وجدة، بركان، تازة، مكناس، تطوان، طنجة، أصيلة، أكادير، مراكش، آسفي، الجديدة، الصويرة، بني ملال، أما القنيطرة التي اشتغلت فيها على مدى عشرة أعوام، فإنني لم «أعمر» فيها كثيرًا؛ لأن الذهاب إليها والإياب منها ظل صوريًّا لا يتجاوز تلك اللحظات السريعة التي كنت أستهلكها في مقهى أو مطعم أو محطة قطار، وكذلك البيضاء، التي اشتغلت فيها سنة واحدة، أو سلا لسنتين ونصف، خارج هذه المدن زرت أغلب المدن الإسبانية، وبعض المدن في فرنسا، خاصة باريس، وفي بلجيكا وهولندا وإنجلترا، خاصة لندن، كما زرت موسكو ولينينغراد (سان بترسبورغ)، وزرت الجزائر وليبيا ومصر والعراق وسوريا والأردن، عواصمها بالتحديد، وكذلك تونس والدوحة والكويت.
إنها مدن شتى، وكل مدينة تمتلك سحرها واستعارتها وبلاغتها، فاس سبيل على الحكمة، وجدة نبتة وحشية، بركان ذاكرة أولى، تازة مجازاة، مكناس عتاقة لا تكفي مرة واحدة، تطوان صيرورة احتماء، طنجة حرية لا حد لها، أصيلة كتاب مفتوح، أكادير لغز، مراكش سرمد، آسفي مجد بلا ضفاف، الجديدة حرقة تاريخ، الصويرة بعض دمي، بني ملال إزم أخرى، القنيطرة مسافات لا حد لها، البيضاء مواجع كبرى، سلا قلعة النسيان، باريس جذوة، بروكسيل موقع لاكتشاف الهوة، أمستردام تشكلات أبدية، لندن عبق من عوالم ممتزجة، موسكو فجيعة، لينينغراد هي المدى بعينه، الجزائر موءودة، طرابلس ممدودة، القاهرة مشدودة، بغداد مقدودة،، عمان مرصودة، الدوحة منشودة، الكويت أملودة.
هكذا تنهال المدن عليَّ وعلى ذاكرتي، وأنا أخترقها على بساط من الصور التي ترسخت في ذهني على امتداد ما يقارب خمسة عقود ونيف هي عمري، جلت فيها وتسكعت، بالليل والنهار، رافقت فيها أصدقاء وكتابًا وباحثين ومبدعين ومفكرين، لكنني، حين تنقطع بي السبل وأنحشر في ذاتي، تلح الناظور أكثر، بكل ما تمثله لدي وتجسده من الأحلام والأحاسيس والرغبات، والذي يستبد أكثر هو المكان، حين كانت الناظور مدينة بالفعل بأحيائها المنظمة، بساحاتها النظيفة، بملعبها الرياضي، بقاعتي السينما فيها، الريف وفيكتوريا فيها، بحوانيتها وغابتها وساحاتها وممراتها ومتنزهاتها، ولأنني لم أزرها منذ وقت بعيد، فإنني لم أحتفظ في ذاكرتي، سوى بما (كانت عليه)، ولا أعرف الآن كيف صارت، كل ما صرت أعرفه أقرأه في الصحف، أو أسمع عنه شفاهة بين الحين والآخر، ونادرًا ما يشفي الغليل، لقد طردت منها بفعل الحقد والكراهية.
الناظور من توحي لدي الآن، لكن يبقى المكان، وكما هو المكان دائمًا، تلك الجغرافيا المفقودة، والهندسة العارية، فإن أمكنة الرباط التي أقبلت إليها منذ قرابة أربعة عقود، تجعلني أتسيح بمساحات من الإحساس بعزلة أحيائها على مدار اليوم، خوفًا من غواية التحسر على ما مضى من تواريخها المشعة في الحياة العامة، كما في الحياة الخاصة؛ لقد فقدت الرباط الكثير من طعمها وبريقها، واستحالت مجرد تجمع سكاني لا رابط بين أفراده وأعضائه، وانسلت كل طقوس الإبداع المشترك، في اللباس والذوق والسلوك والوعي، تحترق بعيدًا، وتحل محلها الرعونة، ويحل الجفاف، واجتثاث ما تأسس من قيم أصيلة لصالح قناعات كسيحة، سرعان ما تذروها عقارب الزمن الآخذة في هدم هوية الرباط، ثقافيًّا واجتماعيًّا.