العنصرية موضوع أليم، ضحاياها يشعرون أكثر من غيرهم بالقسوة والظلم، واللا إنسانية التي يمكن أن يتحلى بها بعض البشر.
تستطيع أن تتقبل رفض الآخرين لك، ومقاطعتهم لك، تستطيع أن تلتمس لهم الأعذار، وتقرّ بأنهم أحرار في عواطفهم، ولكنك لا تفهم لمَ يصرون على أذيتك، وإذلالك، ومعاملتك على أنك قذارة تتسخ أيديهم عند مصافحتها، ويتلوث هواؤهم إذا بقوا قريبًا منها.
مصطفى كسوس، صحافي فرنسي، من أصل جزائري، يعمل في جريدة «لوموند »، نشر مؤخرًا شهادة مؤثرة، يحكي فيها ما يتعرض له من عنصرية، وإذلال في مجتمع يرى أن الهوة تتسع فيه بين ما تتبناه الدولة من قيم إنسانية سامية (من أخوة، وعدل، ومساواة)، وما تعبر عنه السلوكيات اليومية العنصرية لممثليه من ضيق أفق، وكراهية، واستعلاء.
يقول مصطفى: «ترعرعت في شقة فسيحة في قلب الأحياء الراقية في ليون، والدتي كانت ذكية، رأت أن علينا أن نعيش وسط المدينة لنحظى بفرصة تحقيق شيء ما، درست في مدرسة كاثوليكية، وعانيت الأمرين فيها، أساتذتي وزملائي كانوا يرددون على مسامعي شتائم من صنف «عد إلى بلدك»، «لست هنا في وطنك».
أثناء انتهائي من دورة تكوينية في إحدى مدارس الصحافة، سألني الصحافيون المشرفون على الامتحان الشفوي أسئلة غريبة: «هل أنت مسلم؟ هل حصلت على وظيفتك في لوموند لأنهم كانوا بحاجة إلى عربي؟».
كنت أظن واهمًا أن عملي في جريدة مرموقة سيغطي على ما تعتبره شريحة واسعة من الفرنسيين عيوبًا لا تغتفر؛ كوني عربيًّا، أسمر اللون، ومسلمًا، كنت أظن أن بطاقتي الصحافية ستحميني من أذى أشخاص مهووسين بأصل الناس وشكلهم، وكنت مخطئًا.
لا يصدقني الكثير من الفرنسيين عندما أقول لهم بأنني صحافي في لوموند.. بعضهم لا يتورع عن الاتصال بالجريدة لإعلام المسؤولين بأن شخصًا يدعى مصطفى ينتحل شخصية صحافي في الجريدة.
ما أعانيه دفعني للدأب على إخفاء اسمي الشخصي عندما أتحدث في الهاتف، أقدم نفسي على أنني السيد كسوس، أعترف فقط بكنيتي التي لا يََشْتَم فيها الفرنسيون رائحة عروبتي.
بحثت فترة عن شقة، واتصلت بمالكة عقار أخبرتني بأن اسمها «فرانسواز»، وسألتني عن اسمي، قلت لها بأنني أدعى السيد كسوس، وألحت لكي تعرف اسمي الشخصي، اضطررت لأعترف به، ولم أحصل على الشقة، لم أستطع أن أجد ما أريد إلا عندما طلبت مساعدة صديقة شقراء طويلة القامة (من أهل البلد)!
ويسرد مصطفى في شهادته واقعة عنصرية مؤثرة: «ذهبت مرة لتغطية جريمة وقع ضحيتها صبي فرنسي قتله مغربي، قدمت نفسي لأحد أفراد عائلة الضحية، وصرخ في وجهي ببرود «أنا لا أحب العرب!»، اتصلت بمسؤولة مستشفى الأمراض العقلية، الذي يُعتقد أن القاتل هرب منه، وقدمت نفسي إليها على أنني السيد كسوس، من جريدة لوموند، ورحبت بمقابلتي، ذهبت إليها، ومرت قربي سيدة تستند على عكازين، فتحت لها الباب، ونظرت إليّ دون أن تحييني، أو تشكرني.. «أين هو صحافي لوموند؟».. سألت بصوت عالٍ، وأجبتها: «خلفك سيدتي»، بدت على وشك الإغماء وهي تتفحصني، «هل لديك بطاقة صحافية؟ هل لديك أوراق هوية؟» سألتني.. وأجبتها: «في المرة القادمة سيدتي اطلبي منهم أن يبعثوا لك فاكسًا بوثائقي المدنية، هكذا نربح الوقت».
تركتها وأنا منفعل جدًّا، وفي طريق عودتي اعتقلتني الشرطة ظنًّا منها بأنني المجرم!
يتحدث مصطفى بمرارة عن المواقف الأليمة التي يضعه الفرنسيون فيها بسبب لون بشرته، وشكل ملامحه: «حين أكلف بتغطية جلسات في المحكمة، يطرح عليّ رجال الأمن دائمًا نفس السؤال: هل أنت هو المتهم؟»، حين أركب سيارة، أو دراجة هوائية تستوقفني الشرطة، وتطلب مني أوراقًا تثبت أنني لم أسرق ما أركبه، رجال أمن المحلات التجارية يقتفون أثري كلما اجتزت العتبة، أحد الباعة رفض أن يفتح لي باب البوتيك، وعامل مطعم «راق» لم يرد أن يخدمني أنا وأصدقائي».. ويختم بانفعال: «يقولون عني إنني من أصل أجنبي، وإنني عربي، وإسلامي، ومجرم، ومتوحش، ومهاجر... ولكن لا أحد يقول إنني فرنسي.. فرنسي فقط».