زلة لسان، ومن منا لم يزل لسانه وأوقعه في مأزق أو موقف حرج؟ بل قد يتعدى الأمر حدود الإحراج، ونتورط ولا نعرف كيف الخروج، كأن تكون في مناسبة عائلية يجتمع فيها معظم أفراد العائلة والأصدقاء، وأثناء عرض شخص ما من العائلة لمشكلة له، وإذ بلسانك الفالت ورغبة دفينة منك في فرد عضلاتك أمام الجميع، تبادر بعرض خدماتك على هذا الشخص لحل مشكلته، ظناً بأنه سيكتفي بأن يشكرك على مبادرتك، وتكون قد كسبت جولة دون خسائر أو تكاليف تذكر، ولكن يحدث العكس، فالشخص الذي يعرض مشكلته يصبح كغريق تشبث بقشة وسط البحر، ويبدأ بطرح الأسئلة عليك أمام الجميع، وأنت مضطر لمواصلة استعراض قوتك وعلاقاتك واتصالاتك ونفوذك، وإذ به يأخذ وعدًا منك لحل مشكلته، ويتبع ذلك اتصالات مكثفة، بل زيارات مفاجئة لمقر عملك ولمنزلك، وربما قد تكون قادرًا على حل المشكلة، لكن الإلحاح المتواصل، يجعلك تبدأ بنفس لسانك الزالف بلعن الساعة التي أطلقت فيها لسانك بالحديث عن قدرتك الخارقة في حل المشاكل، ولا تجد بدًا للخروج من هذا المأزق إلا بتصريح مباشر وموجه لهذا الشخص بأنها كانت زلة لسان، وأنه لا حول لك ولا قوة، وتدرك ساعتها قيمة الصمت وروعة السكوت التي توازي الذهب قيمة، لا يقتصر فضل السكوت اجتماعيًا، بل يظهر في السياسة، ويكون أدعى وأفضل سبيلاً، فالخرس السياسي صفة محمودة، فهي تنشئ جيلاً ساكتًا بعيدًا عن المعتقلات والزجر والرفس، حتى الأدباء والشعراء نصحونا بالسكوت، كقول بعضهم:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
وفي محيط عملك، إن كنت تشارك في اجتماع في حضرة المدير وزملائك، وتحدث المدير عن معلومات خطأ، وأفكار تافهة، وثرثر ثرثرة لا تفيد ولا تغني من جوع، فلا تقاطعه، فصمتك هنا يؤكد احترامك لذاته التي لا تخطئ، وإن رفض لسانك الزالف الصمت فلا بأس، أثنِ على قريحة مديرك النادرة، التي ما من يوم يمر إلا وتتفتق عن أفكار غاية في الروعة، ولكن حاذر أن تقترب منه أو تطيل الحديث معه، وإياك أن تقول أرى أو أقترح، أو عبارات من قبيل لدي ملاحظات أو عندي تحفظات، فذلك من شأنه أن يطيح بك إلى أسفل الدرك، وسوف تكون عندها من الطابور الخامس، أو معوقي المسيرة، أو المندسين ذوي الهوى.
المدير لدينا يرى نفسه من طينة غير طينة الآخرين، ومن معدن خلاف معدنهم، فما إن يتربع على الإدارة، حتى يجعل لنفسه سكرتارية ويُغلِق من دونه بابًا، باب لزوم الوجاهة والهيبة، وسرعان ما تحيط به كوكبة من الحواريين، يرى بعيونها ويسمع بآذانها، ولا يُبرم أمرًا دون مشورتها والرجوع إليها، فإن خلص إليه أحد ونجح في عبور السدود والمتاريس، فهي إشارة سريعة أو كلمة مقتضبة، فإن أطال الوقوف أو أسهب في الحديث، فهي نهرة أو زجرة تنهي الموقف وتعزز المكانة.
أما لو صادفك الحظ كما صادف غيرك دون مناسبة وأصبحت مديرًا، إياك أن تتباسط مع مرؤوسيك، أو أن تحاول تفهم مشاكلهم، فسينظر إليك من هو أعلى منك على أنك أضعت هيبة الإدارة، وأطحت بمصالح المؤسسة، وأنك شخص «خِرع» لا شكيمة له، سيتسبب في أن يعم المؤسسة سبهللة، إذا عرض عليك أحد مرؤوسيك أمرًا لا تفهمه، فحذار من محاولة الفهم أو طرح أسئلة قد تكشف جهلك المطبق، فهذا من شأنه أن يبعث الرضا والنشوة في نفوس المرؤوسين، افتعل مشكلة لتصيح وتهلل وتجمع الأوراق وترهب الواقف أمامك، حتى ينصرف تاركًا الموضوع الذي جاء من أجله لتدرسه على مهل، محاولاً فهم غوامضه دون اللجوء لمن هم أدنى منك، لا بد أن تكون صورتك دائمًا في أذهانهم أنك تعلم ما لا يعلمون، ففي كل الأحوال.. اخرس تسلم.