الأبنودي في معزله

أيا كانت الوجهة، أيا كان القصد، فثمة راحة تسري عند الخروج مع الصحب بعد أن صار ذلك من الذكريات البعيدة، فمن النادر أن يحدث ذلك التجمع والذي لا يزيد على أربعة أفراد، المبادرة جاءت من عزت القمحاوي الذي تربطه بالإسماعيلية صلة قوية، اقترح لقاء الزملاء في أخبار الأدب، نهاية الأسبوع في منزله هناك، بالطبع الاقتراب من الإسماعيلية، أو المرور بها يعني زيارة الخال. منذ شهور لم أقم بالواجب، تحولت علاقتنا على الهاتف شأن الحال مع معظم الأصدقاء الحميمين غير أن الخال عبد الرحمن الأبنودي يصارع المرض في معزله الصحي والاختياري بعد أن أصبح مستحيلا إقامته، ولو يوما واحدا في القاهرة، من المفروض أن نزوره ولو مرة في الشهر، لكنها الدنيا بما تحول من مفاجآت وزحام يلهينا عن أنفسنا، الشروع في زيارة الخال يعني ضرورة إخطار يوسف القعيد وأسامة شلش، لو علم كل منهما بذهابي منفردا فسيحدث عتاب، أسامة أكثرنا حرصا على الزيارة، دائما يفاجئني قائلا: «مش أنا رحت للخال امبارح»، فأقول معاتبا «ومختنيش معاك ليه يا رجل»، ثم تمر الأيام، تمر وتمر، اتفقنا على أن نبدأ بالخال ثم ننثني إلى عزت وعنده نتناول الغداء، أخبر عزت الخال بخط سيرنا قبل أن يستقر رأينا على ذلك، قال إننا سنجيء بعد الغداء، ونتناول الشاي، ركز عزت على توضيح خطواتنا، سنصل عنده بعد الغداء، الخال كريم، لابد أن يجهز مائدة ثرية لضيوفه تحوي كافة ما لا يقربه هو، طواجن تعدها شقيقته التي تعيش بقربه، لحوم محمرة وأخرى مشوية، وأنواع من الخضار، يقف هو ويتناول الأطباق ليغرف هو ويقسم على هذا ويلح على ذاك مثل شيخ القبيلة أو عميد العائلة، غير أنه لا يتصدر المائدة، في بداية معزله كان يجامل ضيوفه بأكل لقيمات وقطعة لحم غير أن ذلك أدى إلى زيادة في الوزن، وهذا غير مستحب، عندئذ كف واستمر في دور المحرض على الأكل والمضيف الكريم، عندما اقتربت السيارة من المكان الذي سنلتقي عنده بعزت اتصلت بالخال، كانت الساعة حوالي الحادية عشرة عندما اتصلت به، من خلال علاقتنا الهاتفية وخبرتي بصوته أصبحت أعرف تطور حالته عبر اليوم منذ استيقاظه وحتى نومه، عندما أخبرته أننا في الطريق إليه، صاح منزعجا: «الله.. هو أنتم مش حتتغدوا عند عزت..»
طمأنته، لقد غيرنا الخطة حتى نعود إلى القاهرة قبل المغيب، مصدر إزعاجه أنه لم يعد لغدائنا عنده، استأنفنا الطريق، عند اقترابنا من الإسماعيلية بدأت الذكريات المرتبطة بحربي الاستنزاف وأكتوبر تتوالي عليّ، المكان من أقوى محفزات الذاكرة، ربما لأنه الوجه الآخر للزمن، اللون الأخضر في الإسماعيلية خصب، متنوع، يجمع بين خصوصية الطبيعة في قبلي وبحري، النخيل موجود، الفاكهة، حقول البرسيم والمحاصيل الأخرى التي لا تنبت عبر الأشجار، اتخذنا طريقنا عبر ممرات محفوفة بالشجر الكثيف، يتمتع أسامة شلش بذاكرة قوية للطريق لا ينافسه فيها إلا زميلنا صلاح عبد الفتاح الذي يقود السيارة بمهارة وحنكة، أما القعيد والعبد لله فليس لهما من الأمر شيء، ها هو معزل الأبنودي.

على الباب يقف محمود الذي يرافق الخال، ويبدأ بالرد على الهاتف في معظم الأحوال، البيت تحيطه قطعة أرض مسورة تبلغ مساحتها حوالي فدان ونصف، معظمها مزروع بأشجار المانجو التي ننتظر موسم نضجها حتى نتذوق من الثمار التي يوزعها الخال على صحبه بالتساوي والتوصيل للبيوت.
يوم الخميس تجيء السيدة نهال زوجته بصحبة ابنتيه آية ونور، آية تخرجت الأسبوع الماضي في الجامعة الأميركية، وتخطط للدراسات العليا في كندا أو الولايات المتحدة.
فجأة قال القعيد: «الساعة الثانية»، فوجئنا بمرور الوقت بسرعة، أكثر من ساعتين مرت كدقيقتين، ما زالت طقوس اللقاء وقعدة الغداء عند عزت، بعد أن ودعنا الخال عند باب معزله،  رحت أفكر في إقامته، في عزلته، في حيوية روحه التي تمكنه من احتمال آلام المرض، تساءلت، كيف يترك هكذا؟ الأبنودي فليتفق معه من يشاء، وليختلف معه من يريد، لكنه أكبر شاعر في مصر الآن، كيف لا تهتم الدولة به؟ الوحيد الذي يتصل به –كصديق- الفنان فاروق حسني، هذا ما أخمنه من خلال حواراتنا الهاتفية، الليلية، ما أتمناه أن يجد الخال، شاعرنا العظيم الرعاية على أعلى مستوى!