منذ أربعة أشهر وأنا أتابع علاجًا مكثفًا بالهرمونات، لا أدري عنه شيئًا، نسبة نجاعته كبيرة، هذا ما أكدوه لي، لكنني لست متيقنة من شيء، ولا حتى متفائلة، أفعل ما يطلب مني، وأنتظر.
لا شيء حتى الساعة.
أعجب للرجال، لا تلهيهم الأمور المصيرية عن الأكل والشرب والنوم والترفيه، كأن أدمغتهم مقسمة إلى خانات، إذا تكهرب الأمر في أحدها يقطعون التيار عنه، وينتقلون إلى أخرى، كل شيء عندهم قابل للمناقشة، والتأجيل، والإلغاء.
أنا لا أستطيع، حاولت بكل صدق أن أتقبل الأمر، لم يكتب الله لنا أن ننجب الآن.. قال الأطباء إننا سليمان، وإن الأمر كله في يد رب العالمين.. أمامنا العمر، ولدينا ما يشغلنا.. لديه عمله، وترقيته المقبلة، وأسفاره، وأصحابه، ورياضته، ولديّ تلاميذي، والمشروع الموسيقي لآخر العام، وورشة الخياطة التي أساهم فيها، وصديقاتي الكثيرات، ولكنني لا أستطيع أن أبعد موضوع الإنجاب عن ذهني.
تسع وعشرون سنة ونصف السنة.. رقم مخيف لا أكف عن التفكير فيه.. متى سأربي الأطفال الذين سأنجبهم؟ لم أعد صغيرة.. أريد أن ألعب معهم، وأجري، وأقفز، وأتناول المثلجات، وأتسلق الأشجار، وأعدو خلف الطائرات الورقية، ثم.. من سيضمن لي أن زوجي سيبقى معي، وسيصبر، وينتظر؟! لا أمان لرجل مثله، يذرع القارات، ويرى الحسناوات من كل صنف ولون...
إحدى نساء ورشة الخياطة رقّت لحالي وقادتني إلى عيادة لم أسمع عنها من قبل.. لا يتشددون كثيرًا في الأوراق.. موافقة الزوج غير ضرورية، الأطباء الذين استشرتهم من قبل أكدوا لي أنني لا أحتاج لعلاج هرموني، لكنني قرأت، وسمعت الكثير عن نجوع هذه الطريقة.. الدكتور الذي استلم ملفي في العيادة لم يتحدث كثيرًا.. اقترحت عليه الأمر ولم يمانع، قال إن ذلك ممكن، ولكن عليَّ أن أدفع مسبقًا، وأوقع على رزمة إقرارات.
ما من مشكلة.. وقعت، ودفعت الشيك.. وبدأ العذاب.
صداع مزمن صار لا يفارقني إلا نادرًا.. أرق، ودوار، وقيء، ومشاكل عديدة في المعدة.. وأكثر من كل هذا وألم... نرفزة غير طبيعية بالليل والنهار.
ماذا بك؟ يسألني كلما افتعلت مشكلة.
لا أدري.. ليس الأمر بيدي.
إلى متى سأنتظر؟ أسأل بدوري الطبيب الذي يقدم لي كل مرة أراه فيها فاتورة جديدة.. لا أحد يعلم.. العيادة تقوم بما طلب منها، ولا تملك أن تجعل المريض يستجيب أو لا إلى العلاج.
أريد أن يستجيب جسدي.. كل ذرة في كياني تتطلع إلى الخبر المنتظر، و... لا شيء.. أحوالي تسوء، وحياتي الزوجية تتسمم.
لم أعد أتحمل رؤيته.. لم تعد مشاحناتنا تكفيني لأفرغ ضغطي، وانفعالي عليه، صرت أمقت حضوره بجانبي، أكره النظر إليه، أشمئز من لمساته، ويجن جنوني عندما يحاول أن يأخذني في حضنه، ويحيطني بحنانه، وتودده.
أتنفس الصعداء عندما يترك البيت، وأدعو الله أن تطول سفراته، ويدوم غيابه.
وصل بي الأمر إلى حد التساؤل إن كنت أريد حقًا أن يكون لي أطفال منه، لم يعد لعلاجي معنى، لا أريد أن أبقى معه، وجدتني متيقنة كل التيقن من هذه الرغبة، كل ذرة في كياني تتوق للحظة الانعتاق من هذا الرجل، ومن كل ما جرَّته عليَّ حياتي معه من هم، وغم، ومرض، وانكسار.
أنت مجنونة.. أقنعني كل من بُحت له بسري.. لست في حالة طبيعية.. توقفي عن تناول السموم التي ملأت جسدك بها، واستريحي، واستشيري طبيبًا نفسيًا إن لزم، وعودي لرشدك.. لا يمكن للمرء أن يحظى بكل شيء، المال، والمكانة المرموقة، والحب، والأطفال، والصحة الجيدة، والبال الهانئ، اقنعي بما كتب لك، وأنقذي زواجك.. لا تتسرعي.
نصائح اتبعتها دون أن اقتنع بها تمامًا.. أوقفت العلاج، واستشرت طبيبًا آخر، وعلمت أنني عقَّدت وضعي الصحي، وبدأت رحلة علاج ثانية، نفسية هذه المرة.
ملأت حقيبتي بعقاقير جديدة.
دخل عليَّ وأنا أذيب بعضًا منها في كوب ماء كبير.
لم أشعر به.. ذهني كان شاردًا.. وعيناي لم تحيدا عن الفقاعات الصغيرة التي انطلقت من الأقراص المذابة في قاع الكوب.. بلعت المحتوى، واستلقيت على جنبي.. تركت أفكاري تروح وتجيء، وغلبني النعاس دون أن أحس بمقدمه.
حين فتحت عيني وجدت نفسي غارقة في عرقي.. وهو بجانبي، يمسد شعري، ويبتسم.
لم أغضب منه.. ولم أبتعد، لم أشعر بدوار، ولا بقيء، ولا بتعب مفاجئ، غمرني فقط إحساس عميق بالبلادة، والسخافة، والصبيانية..
ورددت له ابتسامته.