هل بدأ طفلك يميل إلى العزلة والإبتعاد عن إخوته؟ هل يعيد حركات متكرّرة بدون توقّف؟ هل يعاني نوبات غضب غير مفهومة؟ هل تراجعت قدرته على النطق والتواصل مع الآخرين، بمن فيهم أنت؟
غالباً ما يعتقد الأهل أن عدم تجاوب الطفل مع والدته يعود إلى ضعف في السمع، ولكنه في بعض الأحيان يكون إنذاراً بوجود حالة توحّد.
«سيدتي» تسلّط الضوء على مرض التوحّد لمناسبة اليوم العالمي للتوحّد، من خلال اللقاءين التاليين مع الإختصاصيين في طب الأطفال الدكتور محمد عيتاني وفي الطب والتحليل النفسي الدكتور شوقي عازوري.
د. محمد عيتاني: تستطيع الأم اكتشاف هذا المرض
- هل التوحّد مرض خاص بالأطفال؟
يصيب التوحّد الصغار، إلا أنّه من الممكن أن تتواجد أعراضه بنسبة أخف حدّة لدى البالغين، كالمصابين بالتوحّد من ذوي القدرات الفكرية العالية أو المصابين بمتلازمة «اسبيرغر» والذين يصلون إلى مراتب علمية عالية، ولكنهم يعانون من مشكلات في التواصل الإجتماعي مع محيطهم.
- هل أعراض هذا المرض متشابهة لدى جميع الأطفال؟
تبدأ أعراض المرض الأولى بالظهور لدى الأطفال، ابتداءً من السنة الثانية من أعمارهم، وقد تبدأ أحياناً قبل ذلك. ولعلّ أبرز هذه الأعراض تتمثّل، في: فقدان قدرة الطفل على التواصل النظري مع أمّه وأفراد عائلته، فقدان قدرات لغوية كان قد اكتسبها في مرحلة سابقة من عمره، شعور الأم بأن طفلها لم يعد يعرفها، إصابته بنوبات عصبيّة حادّة من الصراخ والبكاء بدون أي سبب ظاهر، علماً أن الطفل المصاب بالتوحّد يتمتّع بنمو طبيعي وبشكل خارجي طبيعي.
وتختلف حدّة هذه الأعراض من طفل إلى آخر، وتلعب نسبة الذكاء دوراً بارزاً في تحديد هذه الأعراض، إذ تخفّ لدى الأطفال الذين يتمتّعون بنسبة ذكاء مرتفعة وتشتدّ لدى الأطفال الذين تكون نسبة الذكاء عندهم منخفضة. ويتمتّع 10% من المصابين بالتوحّد بقدرات فكرية خارقة، ولكنّها غالباً ما تبقى محصورة في مجال محدّد كالموسيقى أو الحساب أو الذاكرة.
- كيف يتمّ التشخيص؟
إن الأم هي أول من يستطيع اكتشاف هذا المرض لأنها تعرف عادات صغيرها وتفاصيل حياته اليومية وسلوكياته، ويمكنها بالتالي رصد أي تغيّر في سلوك ولدها ابتداءً من عمر سنة و3 أشهر، إذ تقوم باستشارة طبيب الأطفال أو طبيب العائلة الذي، وبحسب خبراته العلميّة، يمكنه أن يؤكّد فرضيّة المرض، ويقوم بالتالي بتحويل الطفل إلى الجهاز المتخصّص، والمؤلّف من: إختصاصي في علم النفس واختصاصي في علوم النطق واختصاصي في العلوم الحسية والحركية لدى الأطفال واختصاصي تربوي. ويتأكّد هذا الجهاز الطبي المتخصّص من المرض، ثم يضع برنامجاً تعليمياً يتناسب مع قدرات الطفل الفكرية (نسبة ذكائه) واللغوية والحسيّة الحركية، ويتمّ وفقه العمل على تعليم الطفل كيفيّة الإهتمام بمحيطه والتعامل معه بطريقة اجتماعية لائقة وإعادة تعليمه عملية النطق بمراحلها من جديد.
- ماذا بعد التشخيص؟
ينفّذ الجهاز الطبي الذي قام بعملية التقييم البرنامج الموضوع مع الطفل، ويطبّق عملية التحليل السلوكي وتحديده، ليتمّ التعامل مع المصاب على أساس هذا السلوك. ثم، يحاول هذا الجهاز تغيير سلوك الطفل على مراحل مدروسة عبر محاولة امتصاص حالات الهيجان التي من الممكن أن تصيبه أثناء التعليم، على صعيد المدرسة. أما على صعيد العائلة، فيتمّ تدريب الأهل على آليات تساعدهم على التعامل مع ولدهم في المنزل، إما عن طريق مقابلات مع الإختصاصيين أو حلقات للأهل بإشراف هؤلاء الإختصاصين يتمّ فيها الإشراف على تبادل الخبرات بين الأهل.
- ما هي أبرز العلاجات المتطوّرة والمتاحة؟
يشكّل العلاج السلوكي التعليمي التدريبي أساس العلاجات المتطوّرة والتي تتغيّر بتغيّر المرحلة الفكرية لدى الطفل. وتبقى العلاجات بواسطة الأدوية متمّمة للعلاج السلوكي. ومن الممكن أن توصف الأدوية لعلاج حالات الإفراط في الحركة وقلّة الإنتباه والنوبات العصبية التي يمكن أن تصيبهم خلال التعلّم أو الإختلاجات العصبية (الصرع) التي يمكن أن ترافق بعض الأطفال المصابين بالتوحّد.
- هل يمكن دمج المصابين مع أقرانهم من الأطفال العاديين؟
قبل التدخّل المبكر، أظهرت الدراسات وجود التخلّف العقلي لدى 75 % من المصابين بحالات التوحّد، ولكن بعد تطوير آليات دراسة نسبة الذكاء لدى الأطفال المصابين بالتوحّد، تبيّن أن نسبة أقلّ من 25% من المصابين بالتوحّد تعاني تخلّفاً عقلياً شديداً، وبالتالي فإن المصابين بالتوحّد مؤهّلون للمشاركة في التعليم الدراسي أو المهني مع أطفال عاديين، ولكن بإشراف مباشر من اختصاصيين تربويين وسلوكيين.
- ما هي الأسباب المسؤولة عن الإصابة بهذا المرض؟
هناك استعداد جيني وراثي لدى المصابين بالتوحّد، إلا أن أعراض المرض لا تبدو سوى لدى تعرّضهم إلى مؤثّرات خارجيّة في محيطهم وغير معروفة بالكامل، كإصابة الأم بمرض التصلّب الحديبي أثناء الحمل أو وجود التهابات في الحصبة الألمانية لديها خلال الأشهر الأولى من الحمل ووجود بعض الخلل الكروموزومي لدى الطفل ك «المتلازمة الصبغية
الـ 21» أو «متلازمة داون» أو «متلازمة انجيلمان» أو «متلازمة برادر ويلي» أو «متلازمة اكس الهشّة». وقد تعود بعض الأسباب إلى حساسية مفرطة لدى الطفل على حليب البقر أو القمح.
عازوري: تتطلّب حال المتوحّد وجود شخص يرافقه دوماً... بصمت!
يشرح الدكتور شوقي عازوري «أن المحلّل النفسي برونو بيتيلهايم شبّه «التوحّد» بـ «القلعة الفارغة»، وتشير هذه التسمية إلى أننا ندافع عن شيء محصّن من الخارج وفارغ من الداخل ولم يمتلئ، كما النفس بمفهوم علم النفس لدى الأولاد». ويضيف «أن المتوحّدين منعزلون عن الغير، كما أن المجتمع يعزلهم لأنه لا يفهمهم، علماً أن عزلهم عن المجتمع هو معاناة تضاف إلى المعاناة الأساسية».
- ما هو أساس العلاج لحالة التوحّد؟
لعلّ أساس العلاج يقوم على الحياة اليومية، حيث يعيش الطفل بكرامة ضمن فسحته الخاصّة أو عالم خاص به. ومن المهم أن يكون هذا المجال المخصّص له مطَمئناًً، والبقاء معه بدون أن نحاول خرق هذه «القلعة المحصنة» بالقوة، بل دفعه إلى الخروج من ذاته نحو هذه الفسحة الجديدة والمريحة والمطمئِنة. ومعلوم أن المصاب لا يقوم بالخطوة الأولى إلى الخارج سوى إذا شعر بالأمان وبعدم تعدّي الآخر على خصوصياته. وتتطلّب حالة المتوحّد وجود شخص يرافقه دوماً، إنما بصمت، لأن أية إشارة تتوجّه إليه قد يعتبرها عداءً. وعندما يبلغ الثقة بالشخص الذي يراه يومياً وحده، يبثّ إشارةً قد تكون لمسة أو كلمة أو ابتسامة تكون أساس العلاج، حينها يستطيع هذا الشخص أن يوجّه له الكلام والملاحظات. والمرافقة الدائمة أساسية لملء الطفل بالحب إلى حين يكتفي لمواجهة الإنفصال عن الشخص الذي ملأه بهذه العاطفة.