التفاصيل المنسية لحمالة الأسية!


اقتحم الإسفاف المتدثر بالبوح حياتنا مؤخرا، بعد أن لفظت المطابع نصوصًا موغلة في مفردات المراهقة، ولم يعد أي جزء من الجسد أو العري المتعلق به يتعالى على الرواية أو يستعصي على الحكاية؛ لأننا نعيش في زمن «ذاكرة الجسد» و«فوضى الجسم» و«فضيحة الحواس» و«فخ الجسد وأولمبياده»..!

ولم يعد يكفينا ذكر «سرطان الثدي» -أعاذنا الله وإياكم منه- في أكتوبر من كل عام حسب التوجه العالمي؛ لنؤكد تضامننا مع ضحاياه، ولنحث أخواتنا على الكشف الدوري لمجابهة المرض في وقت مبكر، حيث إن سرطان الثدي يأتي في مقدمة أنواع السرطان التي تصيب النساء في العالم المتقدم والنامي على حد سواء، ويظل الكشف المبكر هو حجر الزاوية لمكافحة هذا المرض، بل أصبح ذكر تفاصيل جسد المرأة -بعيدًا عن الغايات الأفلاطونية الصرفة- شيئا معتادًا في كتب تصنف –تجاوزًا- من الأدب، رغم أنها تصنف ضمن أمراضنا الاجتماعية التي لا حصر لها..!

لكن ما نحن بصدده هنا ليس الصدر، بل ما يستر هذا الصدر، ويحمله أو يحميه من الوقوع، ليس غيرة على صاحبته، بل خشية عرقلته لأحد المارّة، وأعني هنا «السنتيانة» أو الحمالة، ولعل هذه القطعة أثارت إشكاليات لغوية قبل أن تثير إشكاليات فقهية، فهي اسم فرنسي -أعجمي-، لذا ترجمتها المجامع اللغوية بترجمات مختلفة، فهذا يسميها «الصدرية»، وذاك يسميها «المنهدة»، وثالث يسميها «الحمّالة» -بالطبع حمالة الصدر، لا حمالة الحطب- كما هي سيرة زوجة أبي لهب.

أما الإشكال الفقهي الذي صاحب الصدرية، فقد أثاره أحد المشايخ المعتبرين عندما سُئل عن حكم لبس «السنتيانة» على ثدي المرأة، فأجاب قائلا: «تعتاد بعض النساء رفع الثدي أو شده بخرقة حتى يرتفع، لتوهم أنها شابة أو بكر أو نحو ذلك، فهو لهذا القصد غش محرم، فإن كان لإزالة ضرر أو ألم أو نحوه جاز ذلك بقدر الحاجة»..!

وأول حضور ثقافي لهذا الجزء الخاص من الجسد، ما حدث لأحد مؤلفات الشاعر نزار قباني الشعرية، حيث أعد الناقد الكبير أنور المعداوي دراسة عن ديوانه «طفولة نهد»، وأرسلها إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة، ونظرًا لأن المجلة لها خط محافظ –وتجامل المحافظين- اتفق الزيات والمعداوي على نشر الدراسة تحت عنوان «طفولة نهر»، ثم علّق نزار قباني على ذلك بقوله: «لقد أرضى المعداوي والزيات القراء، ولكنهما ذبحا ديواني من الوريد إلى الوريد»..!

وأول حضور تجاري للصدريات ما رواه لنا أبوسفيان العاصي، من أن تجارًا يهودا باعوا جماعة من القصمان صدريات -«سنتيانات»- غير أصلية، وبلغ سعر الواحدة خمسة عشر ريالا، وفرحوا لأنهم «غرروا بهم وضحكوا عليهم»، فما كان من القصمان إلا أنهم –أي القصمان- قصوا هذه الصدريات، وفصلوها عن بعضها -على اعتبار أنها «طاقية نفرين»- وباعوها لليهود مرة أخرى بسعر عشرين ريالا للطاقية الواحدة..!

وعندما دخلت هذه الصدريات إلى الجزيرة العربية، شكلت «صدمة حضارية»، الأمر الذي جعل واعظًا بسيطًا ينتقد هذه الصدرية ولابساتها، مؤكدًا أنه لا حاجة للنساء بها، ودليله على ذلك أنه لم يسمع عبر التاريخ أن أحدا وجد ثديا مرميا على الأرض، أو تزحلق به أحد كما يتزحلق المرء بقشر الموز، متسائلا: لماذا تلبس هذه الحمالات، أو «الصدريات»، طالما أن الثدي ملتصق بالجسد بشكل فطري..؟!

إن الجسد ومتعلقاته أصبح تجارة ومادة، ومن التورع الكاذب صرف النظر عن هذه الأشياء التي تتعايش معنا يوميا، ومع ذلك نتعالى عليها وعلى قضاياها، وإذا قدر لك أيها القارئ أن تزور بيروت أو لندن أو أي مدينة مفتوحة، فستجد عيادات وأدوية كثيرة مخصصة، إما لتكبير الصدر أو تصغيره، كما أن هذه الصدرية لها محلات خاصة، بحيث تجد كل المحل خصص لبيع هذه السلعة بكل أحجامها وأنواعها وألوانها، وهو مكان متميز لعرض هذا المنتج، ولم نسمع بأن مكتبة مخصصة لأي كتاب أدبي أو شعري معين، حتى لو كان كتابا لشاعر ضخم مثل المتنبي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس..!

ومع ذلك تأتي الصدرية –وهي قطعة قماش صغيرة– وتستأثر بالمحلات والمجلات والفتاوى، في حين أن المتنبي –وهو أعظم الشعراء- رهين المكتبات والمجلدات!

وفي نهاية المطاف سنكتشف أن الوقت حان لنعيد النظر في الهامش والمنسي والمسكوت عنه، خاصة ما يتعلق بـ«سيدتي» من تفاصيل ومفاعيل ومحاصيل..!