بدأت أتردد على المقهى الذي يعمل فيه عندما عينت مديرًا مؤقتًا لمشفى خاص. قادتني قدماي يومًا إلى مقهى قريب، بدا لي نظيفًا وهادئًا، طلبت فنجان قهوة، وتبادلت أولى كلماتي مع نادله الشاب، فتى عاثر الحظ، يحمل إجازة في الأدب العربي، ويجر وراءه سنواتِ من اليأس والقنوط والإحباط.
يتملكني شعور عميق بالذنب كلما فكّرت في مئات الألوف من الشباب العاطلين الذين لا يجدون من يفتح أبواب التوظيف أمامهم، شهاداتهم غير مطلوبة في سوق الشغل، عائلاتهم غير معروفة، وإمكانياتهم المادية متواضعة جدًا، عندما أقارن أحوالهم بحالي، أنا الذي يراكم المهام والمسؤوليات، أخجل من نفسي، وأقتنع بأن ثمة ظلمُا كبيرًا في الطريقة التي تسير بها هذه البلاد.
حسان لا يبدو حاقدًا على أحد، يقول بإنه يرضى بنصيبه، وإن كان يتمنى أن يحظى بفرصة عادلة لشق طريقه في الحياة، مثله مثل أقرانه ممن ساعدتهم وساطاتهم على الفوز بوظائف لائقة، عرضت عليه أن أتدخل، وأدبّر له عملاً مكتبيًا في إحدى الهيئات الحكومية التي أتعامل معها، وبرقت عيناه، ثم خفت لمعانهما.
ربما.. في وقت لاحق.
لا يريد أن يترك صاحب المقهى الآن، يعتمد عليه في تسيير الشغل، ويثق فيه، لا يستطيع أن يتنكّر له بعد أن انتشله من الشارع.
قدّرت له طيبته ومروءته، وكبر أكثر في عيني، وحين أخذني على جنب يومًا، وطلب مني وعيناه تدمعان أن أساعده، لم أتردد، قلت له بأن حاجته مقضية، وسحبت يدي اللتين انحنى عليهما يمطرهما بدموعه وقبلاته، يحتاج لسلفة عاجلة، فقد وأهله بيت القصدير الذي ظل يؤويهم ثماني وعشرين سنة، أزالت البلدية كل دور الصفيح المتاخمة لمشروع سياحي دولي، بدأ العمل في إنجازه، وشرّدت مئات العائلات، أبوه مسن، وأمه ضعيفة البنية، وإخوته صغار، لا يمكنه أن يتركهم يمضون الشتاء في خيمة بانتظار تنفيذ وعود البلدية، وجد غرفة في قبو عمارة، لكن صاحبها لا يريد تأجيرها، يبحث لها عن مشتر، ويطلب ستين ألف درهم، تمكّن من جمع عشرة آلاف، ويحتاج لمبلغ مماثل لتقديم عربون للبائع قبل أن يدبّر باقي النقود، وهو مستعد لكل طلباتي، سيمضي الكمبيالات التي أريد، دون مناقشة، أسكته، وقمت أبحث عن صاحب المحل، استأذنته في «استعارة» نادله ساعة أو ساعتين، وعرضت عليه ما شاء من مال، الرجل كان متفهمًا كما قال عنه حسّان، أشار للشاب بأن يزيل صدريته، واستقللنا سيارتي، غرفة القبو ذكرتني بزنازين الأفلام، أبديت تشككي في صلاحيتها للسكن، لكن حسّان أكد أنها تناسب عائلته، واسعة ومضيئة، بفضل فتحات التهوية العريضة، وقريبة من وسط المدينة، لم أناقشه، ملأت شيكًا بكامل المبلغ المطلوب لصاحب الغرفة، وذهبنا إلى مكتب عقود لإتمام الصفقة، لم يتوقف حسّان عن فرك عينيه والدعاء لي طيلة العملية.
مرت خمس سنوات على هذه القصة، رد لي النادل المبلغ على شكل دفعات بسيطة ومتتالية، رغم احتجاجي، دعاني والداه مرات عديدة للغذاء، وفوجئت بالتغيير الجذري الذي طرأ على الغرفة، أعيد طلاؤها، ووسعت نوافذها، ورتب أثاثها البسيط بذوق، صارت مكانًا دافئًا ونظيفًا، ولن أقول صالحًا للعيش، لأن خمسة أفراد في سبعة أمتار على ثمانية، أمر لا يتقبّله المنطق، لكن العائلة بدت سعيدة جدًا بها، وممتنة لجميل لا أشعر أنني قدمته لها، يتملكني الخجل عندما أفكر أنه كان بإمكاني أن أفعل الكثير من أجل هذا الشاب وأسرته.
علم منذ فترة بأنني أبني بيتا في الضاحية، واستأذنني في أن يأتي من حين لآخر لمساعدة العمال، لم أقبل طبعًا، ولكنه أصرّ، ورفض أن يتقاضى درهما واحدًا عن تعبه.
أراه يتحرك وسط العمال حينما آتي لمراقبة الأشغال، يجمع الأحجار، وينظّف الغرف، ويحمل أكياس الأسمنت، ويرتب ألواح الخشب، ويمسح معدّات العمل، وأنحيه جانبًا، وأطلب منه أن يرتاح، ويعود لأهله أو يخرج مع أصحابه، ويبتسم بصمت، ويحني رأسه، ثم ينسل أول ما أدير ظهري له، وسط العمال، ويمد يده إلى المجرفة، ويشتغل.
للتواصل مع الكاتبة نجاة غفران [email protected]