للبحر الأبيض عندي منزلة خاصة، إذا ما قيل لفظ البحر على مسمعي، فإنني أتجه بذهني، ومخيلتي إليه على الفور، ليس إلى البحر الأحمر، أو الأسود، أو الميت، أو حتى المحيط، إنما يمْثُل أمامي البحر المتوسط، له حضور خاص مختلف عن كل البحار التي قدِّر لي أن أراها، أو أراها بالطائرة أو السفينة، البحر الأبيض الوحيد الذي غُصت تحت سطحه، ورأيت أمواجه في عمقها من خلال نافذة مستديرة صغيرة، عندما ركبت غواصة حربية زمن عملي كمراسل حربي أثناء أحد التدريبات زمن الاستعداد للحرب.
من أية مصادر تنبع خصوصية البحر الأبيض؟
لا يمكنني التحديد، ولكنني قادر على التخمين.
ربما لأنه أول بحر أراه، كان ذلك عام واحد وستين خلال القرن الماضي، كنت في السادسة عشرة، طالبًا في المدرسة الثانوية، حتى ذلك الوقت من عمري كان لفظ البحر يعني عندي النيل، حقًّا إن الأمر نسبي، فمنْ لم يرَ الشجرة هل يقدر على وصفها؟ لا أظن، هكذا كنت في قريتي «جهينة» بجنوب مصر أسمع الناس يتحدثون عن البحر، وكانوا يقصدون نهر النيل، ذلك النهر القديم، المهيب الذي يفيض كل عام فتغمر مياهه الأرض، وتتجدد الحياة، مرة سمعت من يقول «البحر كبير» لكن لم يقدر لي رؤية هذا البحر إلا في السادسة عشرة من عمري، كانت أسرتي لا تعرف عادة التصييف، أي قضاء أسبوع أو أسبوعين في الإسكندرية أو رأس البر، أشهر مصايف مصر في الستينيات، كنا نسكن في حارة من حواري القاهرة القديمة، ولم يكن ضمن أسرة الحارة كلها إلا أسرة واحدة فقط تذهب لأسبوعين إلى الإسكندرية صيفًا، كانت الزوجة بيضاء، جميلة، لها دلال خاص على زوجها البقال، ومما سمعته أنها تنزل إلى البحر، أي تتجرد من ملابسها وترتدي ملابس البحر «المايوه»، سمعت إحدى جاراتنا تقول ذلك مستنكرة.
في هذا اليوم ركبت القطار لأول مرة إلى الشمال، دائمًا كنت أستقله إلى الجنوب، إلى الصعيد، كثيرًا ما تمنيت الاتجاه العكسي، نسميه بحري، والبحر في مصر مصدر الرياح اللطيفة، الرقيقة، ولذلك عند بناء المنازل يستحسن أن تكون النوافذ الفسيحة في اتجاه بحري، وبحري من البحر، والبحر المقصود هنا هو الأبيض، لن أنسى تلك اللحظة أبدًا، عندما وقعت عيناي على البحر الأزرق، اللانهائي لأول مرة، ما بين الإسكندرية وأبو قير، من خلال نافذة قطار الضواحي، عبر فرجة تتخلل البيوت المطلة، القريبة من الشاطئ، طريق ضيق ينحدر إليه، ينتهي عنده، كما عرفت فيما بعد أن كل الطرق تنتهي إلى البحار، وتبدأ طرق أخرى بوسائل مغايرة، لون أزرق عميق، يخف في بعض المواضع، يمتد إلى اللامدى حيثُ يلتقي بالأفق، يُلامس السماء، يصعد إليها أو تنزل إليه، يتحدد الكون.
لونه أينعنيٌّ، جدد حضوري، ثبتني على اللامحدود، الشوق الدائم إلى الضفاف التي لا تبدو للنظر، لأول مرة تقع عيناي على طريق يفضي إلى اللانهائي، إلى الأبدية، خاصة لونه، ذلك الأزرق، الذي لا أعرف من أين ينبع، من أين يبدأ؟ تمامًا مثل البحار، هل يمكن لإنسان تحديد نقطة يقول فيها، تلك بداية البحار والمحيطات؟
يقول جلال الدين الرومي في المثنوي:
«لا تسأل عن مركز العالم، أنت المركز!»
والبحار بالمثل، لا مركز معينًا لها، كل نقطة منها مركز، مبدأ ومعاد، أما اللون فعلقت به وعلق بي، الأزرق، لون الحياة، ألا يبدو كوكبنا الأرضي من الفضاء الكوني البعيد أزرق اللون، لون المياه التي تغطي معظم مساحته، لزرقة البحر الأبيض خصوصية أيضًا، أزرق يولد من أزرق مثله، يخف ويغمق، لكنه أزرق دالّ في كل الأحوال، توجهت إليه اعتبارًا من تلك اللحظة، ليس بالنظر فقط، إنما بكل ما أحتويه، بكل ما يمكنني إرساله أو تلقيه، هذا وضع لا يبدأ عندي إلا إذا واجهت البحر، ما من مكان ينطلق فيه رحيلي إلى داخل نفسي، إلى حوافّ الكون، مثل الجلوس أمام البحر، لكم أمضيت أوقاتًا طوالاً، أجلس أمامه مباشرة، فوق الرمال، أو صخرة، أو من خلال شرفة، أو عبر نافذة، أما ذروة انتباهي فعند مشارف الغروب، عندما يبدأ رحيل الشمس، وتغزر الألوان خاصة عندما تغوص بسرعة في المياه اللانهائية. في الإسكندرية اعتدت رؤية مغيب الشمس في موضعها الطبيعي، هناك في البحر، عندما سافرت إلى البحر الأحمر لأول مرة عام سبعين، كان ذلك زمن الحرب، قبل أن تصبح الغردقة والشاطئ الطويل من أشهر المناطق السياحية، كنت أزور المنطقة كمراسل حربي، دهشت عندما رأيت الشمس تشرق من البحر الأحمر، وتغرب في الصحراء، الغروب بالنسبة لي مرجعيته في البحر الأبيض رغم أنني عاينت الغروب من أماكن شتى في الكوكب، إنني أتخيل هذا الغروب برؤية إنسان قديم لم تكن لديه معرفة بحركة الكواكب، أي خواطر تنتابه عندما يرى مصدر الدفء والنور يغطس في المياه العظمى؟ ربما الخوف، ربما الخشية ألا ترجع الشمس مرة ثانية.