ها أنذا في المقعد ذاته الذي ربما أكون لزمته من قبل، أنزعج من أي حوار قد يخترق حالة الوحدة التي ألزمها والاستغراق، رفيقي النابع مني القراءة، أختار كتابًا فلسفيًّا أو من علوم الكون، كلما كان الموضوع أكثر عمقًا كان مساعدًا أكثر على الاستغراق والغوص بعيدًا في أغوار الذات، في مقتبل الحياة والمحطات الآتية تلوح بلا نهاية، كنت أسعى إلى محاورة منْ لا أعرفهم، جيراني في عربات القطار، في الحافلات خلال أسفاري داخل مصر، على مقاهي الطرق وعند القرى التي تقوم على حافة الوادي، كنت أتزود من تجارب الآخرين، ولكنني الآن مثقل بتجاربي، بما ينتج عن المنحنيات الحادة، المفاجئة في المسار، لم تتحرك الطائرة بعد، أطيل التحديق من النافذة المستديرة إلى أرض المطار، أفاجأ بالمضيفة المتقدمة نسبيًّا في العمر غير أن حضورها كان رهيفًا أنيقًا، قالت:
«ياه.. كده مصر حتوحشك، حضرتك متأثر قوي..»
لم تكن تعرف أي شيء بالطبع عن ظروفي، في هذه اللحظة ظهر في وعيي عنوان لكتاب جميل لجلال الدين الرومي عنوانه «فيه ما فيه».
الأربعاء ظهرًا
فوق المحيط
لا شيء يثير تساؤلاتي وفضولي وخيالي مثل المحيط، رغم أن ماء الكوكب متصل، وهو المادة الوحيدة التي يتساوى سطحها، فلا يوجد ماء أعلى وأقل، حتى لو جاء من مرتفع أو نبع من الأرض فإنما يمضي إلى مستواه، يحيرني المحيط بما قرأت عنه، بوصف حيرة وخشية الأقدمين الذين أطلقوا عليه «بحر الظلمات»، كانت أساطيل الأندلس العربية تقول إنه بعد إبحار ثلاثة أسابيع يظهر تمثال من نحاس لفارس غريب الخلقة في وسط اليم يرفع يده ناصحًا، «لا خطوة بعدي»، لم يكن أحد يعرف شاطئًا مقابلاً، أو ماذا يوجد وراء هذا الماء كله، وإن كانت بعض الحكايات تتردد في المصادر العربية حول الإخوة المغرر بهم، كانوا ثمانية، أبحروا من لشبونة (عاصمة البرتغال حاليًا)، انقطعت أخبارهم عدة سنوات، انقطع أمل الأهل في عودتهم، غير أنهم عادوا بعد غيبة طويلة وراحوا يحدثون عن بلاد تقع وراء المحيط، وعن بشر لهم عادات ولغة ومظهر مغاير.
هل وصل الإخوة المغرر بهم إلى القارة الأميركية؟
ربما، لا يوجد يقين، ربما عبروا المحيط الشاسع، عندما وصلت إلى المكسيك عام تسعة وثمانين وتعرفت إلى ملامح الوجوه، وأيضا تفاصيل الديانة القديمة والمتعلقة بالشمس أيقنت بصلة الحضارة ما بين الحضارة المصرية القديمة وتلك البلاد، لا يتعلق الأمر بالشمس وأيضًا الأهرامات، لكن ثمة تفاصيل أدق، لاحظت ما يشبه الفول المدمس، يأكلون اللوبيا والفاصوليا مدمسة مثل الفول، أيضًا العلاقة بالموتى، في يوم معين من نوفمبر لابد أن يخرج الناس لزيارة الراحلين، شاركت في هذا الطقس عندما عبرت بحيرة من المياه العذبة إلى جزيرة كلها مدافن، فوجئت بالطعام فوق القبور والزهور، تلك عادات مصرية قديمة، ومع ذلك لا أقطع بوجود الصلة ذلك أن ظروف الحياة والتأمل الإنساني، ومظاهر الطبيعة الواحدة يمكن أن تقود إلى نتائج متشابهة، الفرق الجلي بين الثقافتين يتمثل في القرابين البشرية، في المكسيك كان يتم ذبح قربان بشري، رجل أو امرأة على أحد الأهرامات، في مصر القديمة كانت الحياة الإنسانية مقدسة إلى حد أن عقوبة الإعدام لم تكن مطبقة، وما تردد عن إلقاء عروس في النيل حتى يفيض غير حقيقي إنما هو افتراء من أعداء الحضارة المصرية القديمة لتشويهها، هاأنذا أعود إلى نفس المسار.