السفر لرفيقة العمر ـ3ـ

 

يحيرني المحيط كما تُحيرني الوشائج الخفية التي تربطنا بالماضي والمستقبل، كلاهما نسبي، بعد اجتياز الساحل الأوربي فوق فرنسا بدأ عبور المحيط، سبع ساعات بسرعة متوسطة، تسعمائة كيلومتر في الساعة، خمس ساعات فوق مياه عميقة حتى تلوح أول أرض، في مواجهة كندا، سانت جون، نيوفولند، جزر هاليفاكس؛ لأننا نطير مع الشمس فالوقت يتمدد في مكانه، سبع ساعات تندغم في اللحظة، نقطع المسافة في اثنتي عشرة ساعة تقريبًا، وإذا راعينا فارق التوقيت فكأننا طرنا خمس ساعات فقط، تُقلع طائرة مصر للطيران من القاهرة في العاشرة والنصف صباحًا، وتصل إلى نيويورك في الثالثة ظهرًا، بتوقيت القاهرة العاشرة مساء، نختصر من الوقت سبع ساعات، وفي العودة نسددها مرة أخرى، إذْ يتمدد الزمن، تقلع الطائرة من نيويورك في السادسة والنصف مساء، وتصل إلى القاهرة في الثانية عشرة والنصف.

 

الأربعاء عصرًا

 أجيء في نهاية عاصفة ثلجية ضربت الساحل الشرقي، تبدو آثارها واضحة من الجو، مساحات الجليد الأبيض التي تؤطر المباني وتحيط ممرات المطار، الثالثة توقفت محركات طائرة مصر للطيران، أفارقها إلى الممر، إلى المكان المخصص للعبور، حيثُ الخط الأصفر الذي يجب أن نقف خلفه، قبل خلو المكان أمام الضابط المختص، منذ أن زرت الولايات المتحدة لم تحدث أية مشكلة في دخولي، جئت بعد أحداث سبتمبر عام  ألفين وثلاثة، فقد كنت مدعوًّا من جامعة جورج تاون، لم يكن هناك أي شيء عادي، ما زلت أذكر وصولي عام ستة وتسعين وهو في مستشفى كليفلاند، سألني ضابط الجوازات عن المدة التي سأقضيها؟ قلت متطلعًا إليه.

أرجو ألا أمكث أكثر من شهر.

فوجئت بالرجل يتطلع إليَّ متأثرًا، فهِم عني، قال إنه يتمنى أن يكون في وداعي قبل ذلك، شكرته وعبرنا الخط الأصفر إلى الخارج، كنت بصحبة ماجدة التي رافقتنا كمريض، وهأنذا أجيء لزيارتها كمريضة تُعالج هنا، إنها تحولات الزمن.

عادة ما أكون مستقرًّا داخليًّا عند عبوري الحدود، أي حدود، أوراقي صحيحة، أعلن عن كل ما لديَّ ، أقرأ التعليمات جيدًا وألتزم بها، طالما لا أخفي شيئًا، طالما التزمت فإنني أمرّ بكل المراحل بثقة.

تطلع ضابط الجوازات إلى الشاشة التي لا أراها ولا أعرف المكتوب فيها، سأل عن مدة الإقامة فقلت: عشرة أيام، سأغادر في الثالث من يناير، طلب مني أن أضع أصابع يدي اليمنى الأربعة على الجهاز المخصص لذلك، ثم الإبهام بمفرده، طلب أن أكرر ذلك بالنسبة ليدي اليسرى، ثم طلب أن أقف أمام الجهاز الخاص بالعينين، عاد ليدقق ما ظهر على الشاشة، طال الأمر أكثر مما قدرت بالقياس إلى المرات السابقة، تطلع إليَّ، قال: إلى المكتب، طلب أن أتبعه، مشيت عبر الممر القصير الذي كنت أرى البعض يمضون عبره، طلب مني أن أترك حقيبتي أمام الباب، دخلت الصالة الفسيحة، ثمة دكك مستطيلة يجلس إليها البعض في الانتظار، كلهم رجال، أحدهم هندوسي ذو لحية غزيرة، ضباط جوازات يجلسون إلى مكاتب مرتفعة، جلست إلى حيثُ أشار الضابط، كنت هادئًا جدًّا، ليس أمامي إلا الامتثال، سمعت من قبل عمن يطول انتظارهم إلى ساعات، كنت أفكر في صديقي خالد الذي تعرف عليّ أثناء عبوري الطريق العام الماضي المؤدي إلى مكتبة ستراند، أحد المعالم التي لابد من زيارتها عند حضوري إلى نيويورك، كنت أمشي في الشارع الثاني عشر متجها إلى برودواي حيثُ المكتبة تشغل مبنى يقع على الناصيتين، فوجئت بمنْ يناديني باسمي، شاب مصري الملامح يجلس إلى مقود عربة أجرة نيويوركية صفراء اللون، مصري هاجر إلى الولايات المتحدة منذ  اثني عشر عامًا، سرعان ما تعرفنا، قال إنه شاهد برنامجي عن القاهرة القديمة «تجليات مصرية» في قناة دريم، وأيضا في قنوات أخرى، غير أنه في اللقاء التالي فوجئت به يحضر كتبي ويطلب مني توقيعها، لا يقرؤني بمفردي فقط، إنما يتابع الأدب المصري الحديث، صارت رفقتنا محاورات في الثقافة والسياسة.

خالد يقف في الخارج، اليوم إجازته الأسبوعية، شعرت بالذنب لأنني سوف أكون سببًا في تأخيره، لكنه لو علم بوصولي دون أن أخبره فسيحزن، ويبدي العتاب، ترى.. كم سأبقى هنا؟ الصالة بسيطة، لكن صرامتها أنيقة، إنها مكان تحقيق بشكل ما، يمكن أن يخرج الإنسان منها ليستأنف مساره العادي، ويمكن أن يصبح موضعًا للتحقيق والتساؤل، كل شيء يتم بهدوء.

لم أنتظر أكثر من دقيقتين، خرجت بعدهما سيدة برتبة ضابط كانت تجلس في غرفة صغيرة جدرانها زجاجية، تقدمت نحوي مبتسمة:

«أهلا بك مستر غيطاني.. تفضل»..

إذن لن يتأخر خالد، إلى المدينة، إلى حيثُ زوجتي ورفيقة عمري التي جئت من أجلها.

 

من ديوان الشعر العربي:

قال توبة بن الحمير:

ملأ الهوى قلبي فضقت بحمله

حتى نطقت به بغير تكلُّف