السِّحر الحلال في فتنة الجمال

لقد أتت الطفرة وجاء معها الركض اليومي، الذي يصرف الإنسان عن التمتع بالقيم التي يحملها من روح وجسد، وأشغلته التفاصيل اليومية عن التوقف؛ ليحدق في زهرة جميلة أو لوحة آسرة، فأصبح قلبه قاحلاً كصحراء لم يعانقها المطر منذ سنين، بعد أن استوطن الجمود والتكلس مفاصله، والمتهم الأول في هذا التيبّس هي المدن التي قضى ضجيجها على أي فرصة للتأمل في معاني الجمال، وأجهز ازدحامها على الهدوء والدعة، وأصبح الناس يتحدثون إلى بعضهم بصوت عالٍ، بسبب صخب الآلات ومنبهات السيارات التي تزعج كل ذي حس مرهف. حقاً لقد نسي الإنسان أن يتوقف في سويعات الأصيل، محدقاً في الجمال الذي يمر عليه أطراف الليل وآناء النهار، فتلك حسناء تعبر، وهذه شيماء تمرّ، وثالثة ليلى تتمخطر. هذا الجمال كان أصيلاً في ذهن العربي منذ الأزل.

حين حمل لنا التراث قصيدة:

بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ

مُتَيَّـمٌ إِثْـرَهَا لَـمْ يَفِـدْ مَكْبُـولُ

هيْفَاءَ مُقْبِلَةٌ عَجْزَاءَ مُدْبِـرَةٌ

مَا عَابَهَا فِي الحُسْنِ قُصْرٌ وَلاَ طُولُ

 

حسناً، لـ«نخُشّ» في الموضوع. من الواضح أن كمية الجمال، مبنىً ومعنىً، شبه غائبة عن المجتمع، الأمر الذي يستوجب التذكير به من فترة لأخرى،

 وتأتي أهمية الجمال، بأنه ينعكس على التصرفات؛ لذا يقول شاعرنا الفيلسوف إيليا أبي ماضي:

وَالَّذِي نَفْسُهُ بِغَيْرِ جمالٍ

لاَ يَرَى فِي الوُجُودِ شَيْئاً جَمِيلاً

إنه بمعنى من المعاني يقول للإنسان: كنْ جميلاً ترَ الوجود جميلاً، ولا ريب أن الكل يحفظ الأثر القائل: «إن الله جميل يحب الجمال»، ولكن ما الجمال؟ الجمال عند الفلاسفة، صفة تُلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سروراً ورضًى، والجمال نوعان:

نوع معنوي، وهو أحد المفاهيم الثلاثة، التي تُنسب إليها أحكام القيم، وتضم الجمال والحق والخير، وفي ذلك يقول الإمام عليُّ رضي الله عنه:

لَيْسَ الجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا

إِنَّ الجَمَالَ جَمَالُ العِلْمِ وَالأَدَبِ

 

وقد سُئل النبي «صلى الله عليه وبارك»: فيمَ الجمالُ؟ فقال: في اللسان، (يقصد البيان وحسن الكلام).

أما الجمال الآخر، فهو جمال حسي، يظهر للمرء فيبعث في نفسه الحب والسعادة، والجمال مرادف للحُسن؛ لذا يتداخل المفهومان، وإذا أطلق العامة مفردة الجمال يقصدون تناسق أعضاء البدن.

وقيل كمال الحُسن في الشَّعر، والصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم، والحلاوة في العينين، والظُّرف في اللسان، والرشاقة في القد، واللباقة في الشمائل، والتوازن في الأشكال، والانسجام في الحركات.

إن أهم ما يجدر قوله في أمر الجمال أنه نسبي، خاضع للذوق الشخصي، فما تستحسنه فادية قد تستهجنه نادية، وما تستملحه منيرة قد تستقبحه سميرة، وإذا قال شخص عن فتاة إنها جميلة، فلن يستطيع أن يبرّر ويُبرهن على هذا الجمال؛ لأن أمر الجمال راجع لذوق المتحدث وثقافته، وليس فيه من مقاييس المنطق والعقل شيء.

لذا قال أهل الحكمة: إن المنطق يتدخل في كل شيءٍ إلا في الجمال. إن الحاجة ماسة لأن يعرف الناس أن الجمال ليس فيه جواب نهائي، أو جملة مفيدة؛ لأنه أمر شخصي، ومثلما يتذوق المرء الأطعمة يتذوق الجمال.

حقاً، لقد صدق الفيلسوف أناتول فرانس عندما قال: «إن ميدان الجمال واسعٌ تكثُرُ فيه المُتناقضات، حتى أن باستطاعة المرء أن يُنَاقَش في موضوعات تقدير الجمال أكثر مما يستطيع نقاشه في أي موضوع آخر».

وتبدو أهمية الجمال من خلال المكتسبات التي يضفيها على الجميل، حيث إن التصرّف السيئ يُقبَل من الجميل، في حين أن نفس التصرف لو صدر من القبيح عوتب على إساءته، وقديماً قيل إن «الحسن مرحوم»، بمعنى أن صاحب الحسن مهما بدا منه من خطأ، فالناس يرحمونه ويعطفون عليه ويجاملونه؛ إجلالاً وإكباراً لجماله، وقد وردت في الأثر مقولة: «التمس الخير عن صِباح الوجوه»، ولكن ما ذنب مثلي إن لم يكن من أصحاب الوجوه الصابحة؟! حسناً، ماذا بقي؟ بقي أن أذكرك سيدي القارئ، وأنتِ سيدتي القارئة بنقاط القوة المتمثلة في عبارة  «وكل الذي يأتي من الجميل جميلُ»، فلنزرع الجميل في كل مكان وفق قاعدة:

ازْرَعْ جَمِيلاً وَلَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ

فَلاَ يَضِيعُ جَمِيلٌ أَيْنَمَا وُضِعَا

إِنَّ الجَمِيلَ وَلَوْ طَـالَ الزَّمَانُ بِـهِ

فَلَيْسَ يَحْصُدُهُ إِلاَّ الَّذِي زَرَعَا