جلس الكهلُ متأملاً السماء في معية ابنه الشاب وسط حديقةً غنّاء؛ ليقطع الأب بوح الطبيعة فجأة ودون سابق إنذار مخاطبًا الابن المنهمك في قراءة الجريدة، التي سكنت يديه واستقرت سطورها بين عينيه، وقد أشار إلى السماء: ما هذا الذي يُحلّق هناك يا بني؟! لُيجيب الابن هذا عصفورٌ يا أبي، وتمر دقيقة صمت، يُعاود الأب السؤال بعدها، ما هذا الذي يُحلّق هناك يا ولدي؟! فيُجيب الابن دون أن يرفع رأسه عن جريدته التي بدت منهكة تُعاني آثار الريح وتأفف أصابع صاحبها: عصفورٌ يا أبي!!! ليُعيد الأب الكرّة للمرة الثالثة، فينفجر الابن حانقًا هذه المرة وقد نفد صبره، قلتُ لك عصفور، عصفور، ما خطبك؟! فيبتسم الأب، ويقول في هدوء وقد نظر في عيني ابنه: قبل عشرين عامًا كنت تجلس هنا بجواري في نفس المكان، وكنت تسأل في فضول ونهم، مشدوهًا بالعصفور الذي يرتفع على الأرض بكل ثقة دون أن يخاف أن يقع، مأخوذًا بسماءٍ زرقاء لا حدود لها، ولا نهاية تحتضنه ولا تلفظه، فأجيبك متمتمًا هي الدنيا يا بني، فضاءٌ فسيح، صغار نحن في أرجائها، لكن بوسعنا أن نصنع مدارات وأفلاك، ونمضي إلى الأفق دون خوف!
وتُعاود الكرّة تلو الكرّة، وتسأل عن السر، وكيف لعصفورٍ بسيطٍ أن يرتفع عن الأرض الشاسعة، وفي كل مرة أزيد لك وأُفصّل دون مللٍ ولا كلل، أداعبك تارةً وأعانقك تارةً أخرى وأُقبّل رأسك، وأُسكنّك صدري، علّ دفء المشاعر أوصلت المعنى التائه بعد أن فشِلت في نقله الكلمات، وضاع مع ضيق أفق الحروف وصخب الزمن!!
كنتُ أرسم لك جناحين من ريشٍ، وعلى الورقة كنّا نسُجل أحلامنا ونهمس بها في أذن الطير الوليد أن يحملنا إلى حيثُ الأفق البعيد، كنتُ أعطيك القلم فتُّلوّن الصفحة كيفما تشاء في سعادة طفلٍ بزهوٍ ورضا، كنّا نرسم نجومًا وأقمارًا تدور، وكنّا معًا نُحلق ونبتعد بعيدًا بلا قيود، كنّا نُكلم الطير ونجعل منه صديقًا لوحدتنا، التي رافقتنا طويلاً، وعلى أطراف الورقة معًا كانت أصابعنا تلتقي فنضحك مليًا ونثرثر كثيرًا، ولا نهدأ إلى أن يحين الغروب!!
كنتُ بعد كل خطٍ وزاوية أرقب ملامحك البريئة وقد امتزجت بدهشةٍ وسعادةٍ معًا، فأحكي لك فصلاً جديدًا من قصة الحرية، وكيف أنها حين تعيش فينا تجعلنا أشبه بالطير السعيد، كنتُ أبني فيك جبالاً من ثقة، وأٌشيد صُروحًا من رضا، قلتُ لك يومها إن الحرية الحقيقية هي التي تمتلئ ساحاتها بقضبانٍ الحب الأبدية، وإن أجمل ما في الحياة هو قيود الحب الجميلة، التي تسلبنا الحرية وتجعلنا سجناء بملء إرادتنا.
الفرق بيننا يا بُني أنّ أسئلتي بعد زمنٍ أصبحت همًا عليك، وما أعرتني اهتمامًا بعد أن سرقتك الدنيا مني فغدوتُ ثقيلاً على قلبك الذي كبر لكنه ما حواني، أمّا أنا فقد صنعتُ من دهشة عينيك رحلة، ومن فضولك ملحمة، ومن أصابعك لوحة، ومن قلبك رسامًا جسورًا أمسك بالريشة ونثر ملامح الحلم، وجعل منه حقيقة لن تغيب مهما تكالبت عليك الدنيا!!
تحملتُ أسئلتك وفضولك في أقصى حالات تعبي، ولم أتضجّر لحظة، كنتُ أحلم لك بمستقبل يُشبه العصفور الذي يُحلق بعيدًا، وسكن قلبك منذ كنت طفلاً غضًا، الفرق الذي بيننا يا بني أني رأيتك في هذا العصفور حرًا طليقًا في حين أنك تركتني سجينًا في قفص الحياة وحدي!!
هو الحب يا بني، الحب الذي يُحيينا، ويجعل من السجون أوطانًا إن رفرف طيره حولنا ليُعانقنا بلا نهاية!! الحب، أساس الحلم الذي جعل من سجن الحياة جنة، فقبلةٌ بل ألف قبلة على جبين أبي ووجنتي أمي، فلولاهما لما عرفتُ معنى الحرية!!