رفعت رأسها بغتة والتقت عيوننا، لحظات صامتة، تملكني شيء من الفضول.
"تلك السيدة هناك..." أشرت برأسي لها، "هل أستطيع أن أتحدث إليها؟".
مسؤولة العلاقات العامة ممتعضة من الطريقة التي قاطعتها بها، والدكتور الواجم الذي لم يقل شيئًا كثيرًا منذ وصولي أشاح بوجهه، وقال إن لديه عملا.
"هل أستطيع؟".
تنهدت السيدة بنفاد صبر، وقالت إن لديَّ عشر دقائق، بعدها عليها أن ترافقني إلى الباب،"لا نريد مشاكل، المدير حريص على أن يبتعد المركز عن كل التعقيدات، لولا تدخل السيد النائب لما سمح لك بعمل تغطية هنا...".
حثثت الخطى نحو الساحة المخضرة، وشعرت بسيدة العلاقات تتردد خلفي، ثم سمعتها تقول: «سأتفقد بعض الأمور وأعود، لا توتري المريضة».
ابتسمت، هذا ما أبحث عنه منذ عتبت قدماي مركز الاستشفاء النفسي.
تجلس تحت شجرة زيزفون باسقة، أمامها مرسم خشبي، وألوان، وورق.
"مرحبا"، فحصتني عيناها، الأربعينات، ملامح يقظة، شعر طويل غير مسرّح، وطقم أبيض مغطى ببلوزة خضراء غامقة متسخة بالصباغة.
" ترسمين؟ جميل..."، منظر بحري هائج، صخور تتكسر عندها أمواج، زبد ورذاذ وخلفية سماوية حالكة.
"من أنت؟ " سألتني، ولم أخفِ عنها شيئا.
"صحفية؟ منذ متى تهتم الصحافة بالمستشفيات العقلية؟ أمضيت أكثر من تسع سنوات هنا لم أرَ فيها صحفيا واحدا".
تأملت ما رسمته باهتمام أكبر، المرأة موهوبة، لا أفهم الكثير في الفن ولكن لوحتها تشع رغم كآبتها.
"ماذا تريدين؟" سألتني بشكل مباغت، لا تبدو مريضة، ليست مريضة، فكرت بيني وبين نفسي، زملاؤها الذين تحدثت إليهم غير أسوياء، ولكنها...
كررت سؤالها، ماذا أريد؟ فكرت بسرعة، بإمكاني أن أحصل منها على معلومات، كيف أجعلها تتكلم، دون أن تشك فيّ؟ لا تبدو ساذجة، ولا مغفلة.
"أريد أن أكتشف ما يحدث وراء أسوار المركز، أقوم بتغطية صحفية... لتنوير الرأي العام".
نظرت إليّ، وتساءلت إن لم أكن قد بالغت في استعمال لغة الخشب، هل ستفهم ما وراء كلماتي؟
طال صمتها، رنّ هاتفي في جيبي، وتجاهلته، ليس وقته، الثواني تمضي، وسيدة العلاقات قد تأتي في أية لحظة.
بدأت الحكاية باتصال السيد النائب ولقائه المختصر برئيس التحرير، ثمة كلام عن أدوية مهلوسة تخرج خفية من المركز ويتم الاتجار بها، هل الصحيفة مستعدة لتغطية القضية؟ اسم النائب يجب أن يذكر إن كان ما قاله صحيحا، لا شيء دون مقابل.
"كنت في الرابعة عشرة عندما بدأت أرسم، لم يعلمني أحد، وجدت نفسي أفعل ذلك، وأتقنه، وأحبه..."
ابتسمت، ولمعت عيناها وكأنها ستبكي.
"كانت أياما لا تنسى، قيل لي الكثير، أنا موهوبة، لديّ إحساس، لديّ ما أعطيه، أمامي مستقبل زاهر، مذهل كيف تفتح لنا الحياة ذراعيها بحب وحفاوة لتصفعنا بعد ذلك..."
ليست مريضة، لا يمكن لامرأة تعبر عن نفسها بهذا الشكل أن تكون مجنونة.
"بلغت الثامنة عشرة، حصلت على الباكالوريا وزوّجني والدي، لم أكن أرغب في ذلك، طلبت منه أن يدعني أسافر وأدرس الفن، استعطفته، اتصلت بالرجل الذي تقدم إليّ، توسلت إليه ليسمح لي بأن أواصل الدراسة، بلا فائدة، كان شرطه أن أتفرغ له ولبيته، تزوجني، وأجبرني على أن أتقمص الدور الذي اختاره لي اثنين وعشرين عاما، اثنان وعشرون عمر !"
عيناها تلمعان دائما، وريشتها معلقة في الهواء، وأنا مشدودة إليها.
"اثنان وعشرون" كررت بيأس.
"وما الذي أتى بك إلى هنا؟ لا تبدين... مريضة !".
رمقتني ببرود : «لست مجنونة إن كان هذا ما تقصدين، أنا بكامل قواي العقلية، حدث ما حدث فجأة، ذات يوم، انهيار عصبي، كان يصرخ كعادته، وأنا في ركني، لا أقول شيئا، لا أدري لماذا فتحت فمي بغتة، وصرخت بدوري، ولم أتوقف، وجدت نفسي في المستشفى، وبعدها هنا، بقيت وقتا طويلا أصرخ كلما فتحت فمي، انهيار عصبي، هذا ما قاله الأطباء، وأنا هنا من أجل هذا منذ تسع سنوات، وأكثر...».
عمر، كما قالت.
"أخذت أكثر من وقتك، هلا تحركنا؟» قالت مسؤولة العلاقات التي أتت خلفي دون أن أنتبه إليها،«ما رأيك فيها؟»، أشارت بذقنها للمريضة «موهوبة، أليس كذلك؟ محزن أن لا أحد يسأل عنها...".
حاولت أن أركز فيما جئت من أجله، لكنني لم أستطع نسيانها.
محزن كيف تتحول مآسي بعض الناس إلى ملفات طبية.