الطائرة

كان يتحدث ببطء. ينظر إلينا من خلف نظارته الطبية الأنيقة، ويبتسم، ويسترسل في الكلام، وكأنه يقرأ صفحات كتاب مفتوح أمامه. نبرته هادئة، كلماته واضحة ومختارة بعناية، وملامح وجهه الأسمر النحيل متحفزة، تقرأ تأثير حديثه فينا، وتستبق ردود أفعالنا، فتشرق قبل أن نبتسم، وتكسوها مسحة جدية بالغة قبل أن نعبس، أو نفغر أفواهنا بذهول.

هو... خبير تقني في التصوير، أمضى أكثر من نصف قرن في العمل كملحق بفرق التصوير التابعة لقناة بريطانية مختصة في تصوير الأفلام الوثائقية البرية. جاب العالم، وشارك في اكتشاف مناطق لم تطأها قدم بشر. لديه الكثير ليرويه. ولدينا الكثير لنسأله عنه.

كنا قلة. خبر استضافته من طرف المركز الثقافي الفرنسي بث في الإذاعة المحلية، ونشر في بعض الصحف، لكن الجمهور الذي أتى لاستقباله ضئيل.

قال إنه لا يعرف من أين يبدأ الحديث، لكن ثمة قصة يريد أن يرويها لنا.

 سمعتم آخر الأنباء قبل أن تأتوا، أليس كذلك؟ بعضنا هز رأسه، وبعضنا سكت.

اتسعت ابتسامته: «أفهمكم. نشرات الأخبار ترفع الضغط. لكن المرء لا يستطيع أن يتظاهر بأنه يعيش في قوقعة، أليس كذلك؟«

ضحكنا، وتابع، وقد استعاد جديته: «ثمة خبر عن طائرة أميركية أحدثت بلبلة ما. دخل ربانها إلى الحمام، وانغلق الباب عليه، وسمعه أحد الركاب وهو يستنجد، وأعلم مساعده بما وقع. شك المساعد في الراكب عندما تبين لكنته المشرقية، وأخبر برج المراقبة بأنه يرتاب في عملية إرهابية. أُخضع الراكب المسكين لعملية استنطاق من طرف الشرطة الفيدرالية بعد نزول الطائرة. ذكرني الحدث برحلة لا تنسى قمت بها مع فريقي في كينيا، على متن طائرة من طراز فوكر في الثمانينيات. كنا حينها نقوم بتصوير أفلام وثائقية عن الحيوانات البرية التي تعيش في جنوب البلاد.

كنا نحو خمسة عشر فردًا، وكانت الرحلة متجهة إلى العاصمة نيروبي. لاحظنا حركة غير طبيعية في الطائرة، وقيل لنا إن مسؤولين حكوميين مهمين يركبون معنا. سارع طاقم الطائرة إلى تحيتهم، وجاء دور الربان ومساعده. لم يأت كل منهما على حدة. قدما معًا، وتركا مقصورة القيادة فارغة، ضد كل القوانين.

أعلمونا بأنهم شغلوا نظام القيادة الإلكتروني.

اهتزت الطائرة بغتة؛ إثر اضطراب جوي، وانغلق باب مقصورة القيادة، وجرى الربان ومساعده بهلع.. كان من المستحيل فتح الباب من جهتنا.

جرب الطاقم كل الوسائل الممكنة. وفي النهاية قام أحد الركاب وأخرج فأسًا صغيرة من حقيبته، وانهال بها على الباب. وأنقذنا«.

تنهد الرجل.

أيامها لم تكن هناك عمليات تفتيش بوليسي في المطارات، ولا إجراءات سلامة متشددة، ولا اعتقالات هوليودية مبنية على شك شخص يرى في كل أجنبي لكنته مشرقية، أو بشرته ملونة عدوًا محتملاً!. أضاف بشيء من الغضب.

وصمتنا.