جاء الكابتن غزالي بصحبة فرقته، بدأ الحفل بالتصفيق الجماعي الرجولي القوي، وفي هذه اللحظة بدأ تزايد النشاط الجوي فوق المدينة، أصغى نعيم حافظ أحد أبناء السويس إلى أصوات الطيران، لقد اكتسبوا خبرة، من الصوت يمكنه معرفة الاتجاهات وعدد الطائرات، بل أحياناً الهدف المقصود، قال بعد انفجار عنيف.
«رمي التلقيحة..»
«التلقيحة» هي الاسم المتداول وقتئذ لحمولة الطائرة من القنابل، كانت الطائرات تتعاقب فيما يسمى «الساقية» وتلقى قنابل ثقيلة زنة ألف وألفي رطل، كان لانفجارها هدير، كان من الواضح أنها ليلة ليلاء من زمن الحرب، لكن الصورة التي علقت في ذهني حتى الآن، رجال الكابتن غزالي وهم يصفقون، ثم يبدأ عزف السمسمية، وعزف السمسمية والطنبورة من أرق أنواع الموسيقى التي عرفتها، إن اسم السمسمية مناسب حقاً، كما نقول على مسمى، أذكر الأضواء الخافتة، والنوافذ محكمة الإغلاق حتى لا تتسرب الأضواء إلى الخارج فتدل الهلاك الطائر علينا. الغناء يتوالى، بقدر رقة السمسمية، بقدر قوة التصفيق ورجولة الغناء.
في الخارج يشتد القصف، تدوي انفجارات، مدفعيتنا المضادة تشتبك بعنف، القصف عنيف مركز، غير أن الغناء غطى تماماً على القصف، غناء يغطي على قصف؟ من يصدق ذلك الآن؟ بل بدأ بعض أعضاء الفرقة في الرقص، عم إبراهيم - رحمه الله - عامل في شركة البترول وعازف ماهر على السمسمية، يبدأ الرقص التعبيري، فتارة هو شحاذ مقعد في شارع الموسكي، وتارة بائع حليب، وتارة شاب ماجن، وهذه إحدى سمات الفن السويسي، البورسعيدي، الفن التعبيري، فالسمسمية ليست عزفاً فقط، إنما غناء مصحوب برقص رجولي جميل.
وهذا ما نراه الآن في تلك الفرقة الفتية، الطنبورة، التي سمعت موسيقاها وأغانيها، تلك الاسطوانة التي أهداها لي صديقي محمد المطالسي، ثم رأيتها لأول مرة مؤخراً على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة، وبدون مبالغة لم أرَ فرقة بتلك الروعة وهذا المستوى، وتثير الأمل، كما رأيت الطنبورة.
في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، كان الشاب البورسعيدي المثقف، زكريا قد أنهى دراسته الجامعية وعاد إلى مدينة الجميلة، ذات الحضور الخاص في الواقع المصري والتاريخ المصري، بورسعيد بوتقة، انصهرت فيها عناصر مصرية عديدة، الصعايدة الذين أقاموا في المكان ولم يفارقوه، إضافة إلى الذين جاءوا من أقصى الشمال، من دمياط القريبة المشهورة بالتجارة والفن، إضافة إلى أن بورسعيد مدينة مفتوحة، إذ تطل على البحر، وتلتقي بكل أجناس العالم، واشتهر أبناؤها البمبوطية، والبمبوطي يتعامل مع السفن الضخمة لحظة تحركها، أو أثناء وقوفها المؤقت، لذلك اشتهر البورسعيدية بالجدعنة، والأصالة، والإقدام على المغامرة، وحب الحياة، فالحياة عندهم عابرة، ويسبق ذلك إيمان عميق بالله والقدر، ولهم لهجة خاصة تتميز بمد نهاية الكلمات.
زكريا مثقف، عرف تاريخ بلاده عامة وتاريخ مدينته خاصة، وفنونها، ومرتبط بها إلى حد العشق، ومن بين الفنون التي ترسخت داخله منذ الطفولة، فن السمسمية، أو كما يعرف في بورسعيد بالضمة، كل إنسان يمكنه أن يغني، وأن يكون صوته جميلاً، وكل إنسان يمكنه أن يرقص حتى إذا كان متقدماً جداً في العمر، هذا أحد المعاني الجميلة الكامنة وراء فن الضمة.
ومع توالي الأيام بدأ زكريا ذو التكوين المصري الفريد في لملمة أطراف هذا الفن من خلال الحفظة والمتقنين، رجال بعضهم يقترب من الثمانين مثل عم حمام الذي لم أرَ أجمل من ابتسامته عبر فمه الخال من الأسنان، والآخرين، كل منهم حالة فريدة قائمة بذاتها.
في عام تسعة وثمانين قدمت فرقة «الطنبورة» أول عروضها في المدينة، وبدأت تشع وتنتشر، ولأن الفن الأصيل يسري في الكون، إلا أنه لاقى إهمالاً في موطنه، فقد عرف العالم فرقة «الطنبورة» قبل أن يعرفها جمهور القاهرة، ولكن من خلال محبين للفرقة وللضمة، ومثقفين كبار ذوي صلات وثيقة، منهم الدكتور محمد السيد سعيد ابن بورسعيد، والزميل بالمركز الاستراتيجي للدراسات بالأهرام.
طبعت أول اسطوانة ليزر للفرقة في باريس، أشرف عليها محمد المطالسي خبير الموسيقى بمعهد العالم العربي، وفي الأسابيع الأخيرة توالت عروض الفرقة على مسرح الأوبرا، الذي بث فيه الدكتور سمير فرج المدير الجديد حيوية ونشاطاً جميلاً وأصيلاً.
للتواصل مع الكاتب جمال الغيطاني[email protected]