هذه المرة أنزل فندقًا أقيم فيه لأول مرة، اسمه «حديقة الفنانين» يقع بالقرب من ميدان مونبارناس، شارع يتفرع من بوليفار مونبارناس، أقام فيه عدد من مشاهير الفنانين، منهم مودلياني، صوره تملأ صالة الاستقبال، في برواز أنيق ورقة، قصاصة عليها خطه، رسالة قصيرة إلى شخص لا نعرفه، يقول فيها إنه سينتظره في ساعة محددة، باريس تتفنن في الحفاظ على ذاكرتها الثقافية، بالصدفة كنت أمر أمام أحد الفنادق العام الماضي بشارع ريفولي، توقفت لأقرأ لافتة من الحجر كتب عليها، إن الكونت ليو تولستوي أقام لمدة شهر في الفترة من كذا إلى كذا، لم أكن أعرف أنه زار باريس، فكرة هذه اللافتات الحجرية تقدم بها الراحل كامل زهيري، الذي كان يعرف المدينتين جيدًا، إلى محافظة القاهرة، وتم الإعداد لها للحفاظ على ذاكرة القاهرة الثقافية، لكن لم يتم المشروع لأسباب بيروقراطية، منها ذهاب المحافظ الذي كان متحمسًا للفكرة، ومجيء آخر بعده!
عادة أقيم في فندق يمتلكه صديقي التونسي فيصل مرزوق والذي أجد عنده ألفة وراحة، إضافة إلى أن الفندق يقع على ناصيتي شارعين من صميم الحي اللاتيني، شارع الكوميديا العتيقة، والآخر يتقاطع معه، اسمه بوسي، كأني في الجمالية، إضافة إلى أن كليهما قريب من دار النشر لوسوي التي تصدر كتبي، هذه المرة لم أستطع فرض رغبتي على المنظمين للحدث الثقافي الذي جئت من أجله، وبالفعل بعد بدء الأنشطة أدركت صعوبة الإقامة بمفردي، بعيدًا عن الأدباء الآخرين الذين تمت دعوتهم للمشاركة في مناسبة مرور عشرين سنة على برنامج الجميلات الغريبات، الذي يقام تحت إشراف وزارة الثقافة برعاية مؤسسات أخرى ذات علاقة بالثقافة، مثل دور النشر والإذاعة الثقافية، والتليفزيون، وشركة الطيران، والسكك الحديدية والمحليات، أي تبرع للجهد الثقافي يخصم من ضرائب المتبرعين، والضرائب هنا حقيقية، لا تهرب منها ولا فكاك، كثيرًا ما فكرت في قصور الأثرياء عندنا في دعم الأنشطة الثقافية، غير أن وضع الضرائب عندنا يختلف، قال لي ملياردير يومًا: إنه لو دفع الضرائب المستحقة عليه، ما تمكن من تكوين المليون الأول، الأثرياء عندنا لا يدفعون ما يجب أن يدفعوه، الذين يدفعون هم الموظفون وغير القادرين ومن ليس لديهم حول أو قوة.
«الغريبات الجميلات» يقوم على استضافة أدباء من ثقافة مغايرة كل عام لمدة عشرة أيام، يتم خلالها إقامة ندوات في جميع المدن الفرنسية والقرى والمنشآت، في عام أربعة وتسعين جئت مع عدد من الأدباء المصريين البارزين، خصص العام للأدب المصري، هنا الأنشطة الثقافية ليست معزولة عن بعضها، في مثل هذه المناسبة تصدر المجلات المتخصصة أعدادًا خاصة عن الأدب المستضاف، تخصص أجهزة الإعلام أوقاتًا للحوارات معهم، تقرر على المدارس نصوص بعض الأدباء، هكذا يتم التعريف بالأدب غير الذائع أو غير المعروف في فرنسا، بعد مرور عشرين سنة، ثم اختيار عشرة أدباء من الذين تم استضافتهم ويقدر عددهم بالمئات، وقع اختيار المنظمين عليّ كممثل للأدب العربي، غير أنهم أضافوا عنصرًا جديدًا، طلبوا من كل أديب اختيار كاتب شاب يصطحبه معه، ويقدمه إلى الجمهور الفرنسي، بعد إمعان وقع اختياري على أديب غزير الموهبة، متفرد، عرفت أعماله ولم أعرف شخصه من خلال أخبار الأدب منذ صدورها، هكذا سافرت على الطائرة الفرنسية في الصباح الباكر مع أحمد أبو خنيجر، الذي يكتب ويعيش في أسوان، ولا ينزل القاهرة إلا نادرًا، زوجتي ماجدة ستصل على مصر للطيران، بطاقة السفر عليها أرخص، هكذا الحال عند مشاركتي في مؤتمر، ندفع كل ما يتعلق بها للجهة الداعية، الرفقة خاصة في الأحداث المعدة جيدًا لا تقارن بشيء.
للتواصل مع الكاتب جمال الغيطاني[email protected]