القراءة.. المجاهدة ـ 2

حدثني وفيق الحكيم قائلاً: إن زملاءه وكلاء النيابة كانوا يستفسرون منه عما إذا كان يمت بصلة إلى توفيق حسين أفندي الحكيم، الذي كتب «أهل الكهف»، كان ينكر على الفور، كيف يقدم وكيل النيابة على تأليف مسرحية؟ كان ذلك في مطلع الثلاثينيات، حيث القيمة لكاتب المقال وللشاعر، منذ صدور «زينب» انقطعت الصلة بالأشكال القديمة ذات الخصوصية، مثل المقامة، والحكاية، والملحمة، ثمة عمل أعتبره واسطة منطقية بين القديم والجديد، لكن للأسف لم يجرِ التأسيس عليه، أعني «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، والذي تتلاقى فيه أشكال السرد القديمة بالسرد الحديث.

لم يكن قلقي بحثًا عن الخصوصية متصلاً بالشكل أو اللغة فقط، إنما كان متصلاً بالقدر الذي تنتجه الأساليب السردية المختلفة من الحرية الإبداعية، عندما بدأت عام تسعة وخمسين لم تكن الأشكال المستقرة، سواء في القصة القصيرة أو الرواية تحقق لي ما أريده من حرية تتيح لي التنقل بين الداخل والخارج، بين الذات والموضوع، بين الأزمنة المتجاورة أو المتداخلة، وجدت ذلك في الأساليب التي هجرها الأدباء في العصر الحديث، ليس في نصوص الحكي المباشر، مثل ألف ليلة وليلة، والمقامة، والملاحم فقط، إنما في أساليب المدونات التاريخية، والوثائق، والنصوص الصوفية، التي أعتبرها ذروة النثر العربي، مثل: «الفتوحات المكية» لابن عربي، و«لطائف الإشارات» للتوحيدي، و«الطواسين» للحلاج، و«الحكم العطائية» لابن عطاء الله السكندري، بدون دراسة الأدب الصوفي تعتبر دراسة الأدب العربي والمعرفة به ناقصة.

من أجل تحقيق الخصوصية بدأت أتأمل العمارة، مصرية قديمة، أو قبطية، أو إسلامية، ريفية أو حضرية، ولي في هذا المجال مجاهدات طويلة ومستمرة، العمارة لتحقيق خصوصية الرواية، ما يجمع بينهما أنهما تركيب، أما محاولتي الاتصال وتذوق الموسيقى العربية، والشرقية بكل أطيافها، فلأن الرواية إيقاع، لماذا أقول عند سماعي الموسيقى العربية، أو التركية، أو الفارسية، إنها موسيقى خاصة نابعة من مسار معين، لها شكل ومضمون لا يتوفر لغيرها، هذا ما أهدف إلى تحقيقه، كتابة نص ذي خصوصية نابعة من التراث الخاص بثقافتي، يتفاعل مع نتاج الثقافات الأخرى، نص مفتوح على كافة النصوص، غير مقيد بنموذج سابق، أو مثال يُحتذى، نص لا يخضع لتأطير نقدي ،أو جمالي، يخلق قانونه وقواعده من داخله، في نفس الوقت أعتبر كل نص أقدم عليه مغامرة جديدة، أبحر إلى شاطئ مجهول لي، لكن قاربي مزود بكل ما أبدعه الأقدمون، ومن تلاقيت معهم وصاروا معالمي، بشرًا كانوا أو نصوصًا كبرى علقت بها، لذلك بعد نصف قرن من البداية في عام تسعة وخمسين، مازلت أشعر بهيبة ورغبة في التجاوز كلما أقدمت، وكلما استجدت الرغبة في تجاوز الذات، وهذا أصعب من تجاوز الآخرين، التجاوز، كان ومازال طموحي الذي أسعى لتحقيقه، وخلال هذا الخضم أقاوم العدم الذي يوشك أن يطويني بالكتابة التي أتمنى أن تبقى بعدي.

أقول ذلك وأنا موقن تمامًا أنه لا شيء يبقى، وما يمثل اليوم لن يكون موجودًا غدًا، برغم يقيني هذا، ويقين كل من أدرك الجوهر، لا يكف الإنسان عن بذل الجهد، وهذا تجسيد للنبل الإنساني الساعي إلى قهر العدم.