الرصيف ناحية حضارية أنتجتها المدينة المعاصرة؛ حفاظًا على أرواح المارة من كل شيطان مارد، وكل قائد سيارة شارد!
والرصيف من جهة أخرى يُحفِّز على المشي، ويُشجِّع بعض النسوة في المدينة -ممن نفخ
الحمل بطونهن- على ممارسة المشي؛ ليصبح الرصيف جزءًا من واجباتهن اليومية، وبمناسبة ممارسة المشي، فقد سجَّل شيخنا «أبو سفيان العاصي» مُلاحظة غريبة، حين مرَّ على رصيف سور الحوامل، وشاهد نساء جُدَّة –بضم الجيم- يمشين على أرجهلن، وذلك نزولاً
عند رغبة الطبيب، ولكن هذا الشيخ تعجب، حينما رأى «الرجل السّعودي» يسير بجوار زوجته؛ وكأنَّه «حارس يحميها»، والمُفارقة هنا أنَّ «السّعودي» يسير
بجوارها راكبا سيّارته، وزوجته تمشي على قدميها، وهذا الرَّاكب يبدو من خلال
مقعد السيارة وكأنَّه «قط شتوي»، مُنتَفخ البَطن، غير بعيد مِن رَجُل يَضم «برميل غاز» إلى صَدره، كما ضُمَّت جيم جُدَّة..!
ولنرجع إلى الرصيف، فهو مكان رمزي للتسكع، وترك الساق للريح، ليحملك هذا الحجر «الحنون» على كتفه، حين تلقي بهمومك الحياتية على ظهره، مستقبلاً إياها قائلاً لك
بكل رحابة صدر: «أهلاً وسهلاً بأهل الهم والتعب»
وهو أيضًا (أي الرصيف) حمّال أسية، فترى الرجال والنساء يتريّضون عليه ليل نهار، ويكون مسرورًا بذلك لا يشتكي..!
ومفردة «الرصيف» تبعث على الحيرة والضياع، ولا تَلُم ذلك الفرنسي الذي دخل في استفهام عريض، حين سأل المارة وهو يسير على الرصيف قائلاً: «أين الرصيف الآخر؟!»،
فقالوا له: هناك، فقال: «كنت هناك وسألتهم أين الرصيف الآخر؟» فقالوا لي: «هناك!».
إن الرصيف في هذه الحالة يصبح رمزًا متحركًا، تضيع بوصلة الاتجاه معه، مستفزًا
«اللاهنا» و«اللاهناك»!
عندما أشاهد رصيفًا خاليًا، أتذكر على الفور جملة لصديقنا المثمر وشاعرنا المُبهج
عدنان الصائغ حين قال:
كان لي رَصِيفٌ لِلتَّسَكُّعِ
وَآخَرَ لِلْحُبِّ..
وَآخَرَ لِلْبَحْثِ عَنْ عَمَلٍ
أَصْبَحَ لِي رَصِيفٌ وَحِيدٌ ضَيِّقٌ
يَمْتَدُّ بِي -كُلَّ يَوْمٍ-
مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْوَظِيفَةِ!
الرصيف ممر ضوئي يشرح الصدر، حين يحمل شابًا نحيلاً للتو تخرج في جامعته، يسير على الرصيف متأبطًا ملفا أخضر، يضم أوراقه الثبوتية، وشهاداته الدراسية، وشهادة حسن
السيرة و«المسيرة» والسلوك، وصور شمسية 6×4، والأهم من ذلك كله «شهادات التزكية»، التي تغني عن جلّ ما في الملف ـ أحيانًا ـ منتظرًا أن يحمله الرصيف إلى «رصيف آخر» أحسن معيشة وخير أملاً!
إن الرصيف لا يستغني عن ولده «الشارع»، فكل رصيف ينحاز إلى شارعه، وجرحه وآلامه،
ومن الممكن القول: «كل يغني على رصيفه»، حين تغيب ليلى عن ضوء الشارع، وممرات
المدينة، والشاعر وحده -هذا البائس- يتكئ على حافة الغروب، مُحدقًا في الفضاء،
ملتهمًا أرصفة المدينة، لا يحمل معه إلا ذكريات دراسته، ووهم حبيبته، وهموم حياته،
ومنذ وقت شاسع قال شيخنا أبو سفيان العاصي -غفر الله له:
أَسِيرُ مُوَزِّعًا فِي الدَّرْبِ خَطْوِي
سَمِين الْهَمِّ يَحْمِلُنِي الرَّصِيفُ!