التفتّ إلى الصبية المارين أمام المحل، ولم أعد أسمع ما يقوله جاري، إبراهيم النجار.
نفيسة، خادمة آل العياشي، تمضي محنية الرأس، مثقلة الخطى وكأنها تجر أطنانًا من الأثقال خلفها، وجهها محمر، وعيناها متورمتان، لا تبدو في حالة طبيعية، التفتّ إلى صاحبي الذي انحنى يصب لنا كأسًا ثالثة من الشاي، ولسانه لا يتوقف عن الحديث.
لا يمكننا السكوت.. البنت ليست على ما يرام....
لم ينتبه لما قلته. نادى صبيه، ومد إليه كأس شاي، تنهدت وأنا أفكر في الطريقة التي يمكن لنا بها أن نتدخل لدى الزوجين اللذين لا يعيران أحدًا من الجيران اهتمامًا.
كريم العياشي موظف في فرع البنك الرئيس الملحق بالشارع، زوجته مدرسة في المدرسة الثانوية، يسكنان في الطابق الرابع، ويترفعان عن ربط أبسط قواعد الجيرة مع باقي القاطنين في العمارة.. ماذا نفعل؟ هل نبعث لهما وفدًا يحدثهما في شأن بهذه الخصوصية؟
ربت إبراهيم على كتفي. سألني أين سبحت في ملكوت الله، وأشرت بذقني إلى حيث اختفت الصبية في نهاية الزقاق.
خادمة آل العياشي... ألا تلاحظ كيف أصبحت هذه الأيام؟ حالتها تفزع. لا يمكن أن نسكت..
لم يلاحظ صاحبي شيئًا.. طلبية الجيران الجدد دوخته تمامًا، فرنسي وعائلته استقروا في أحد المنازل المقابلة للعمارة وطلبوا تجهيز البيت بموبيليا خشب تقليدية، الصفقة مربحة للغاية.
وجه البنت انتفخ من البكاء، وحركتها ثقلت، لن أندهش إن كانت امرأة العياشي تضربها.. لا أرتاح لها ولا لزوجها.
حملق فيّ العياشي، وزدته وأنا منفعل: «وقد تتعرض المسكينة إلى ما هو أكثر من الضرب.. ألا تسمع بالجرائم التي ترتكب في حق الخادمات؟ يجب أن نفعل شيئًا.
قاطعني مجيء زوجة الفرنسي وابنته، هبّ إبراهيم يستقبلهما بحفاوة شديدة، واقترب عمر، صبيه وذراعه اليمنى.
مرت نفيسة عائدة بالأغراض التي اشترتها.. نظرت إلينا، وسالت دموعها، وقمت إليها، ولكنها هربت قبل أن أصل إليها.. نعم، هربت.. لم يعد لديَّ شك في أن الفتاة تعاني، وتحتاج لمساعدة.
نظرت إلى صاحبي المنشغل تمامًا بزبونتيه، وتنهدت بإحباط: «لا يمكن أن أعول عليه الآن».
حدثت أم الأولاد عن الأمر، وتبنت وجهة نظري على الفور. نعم، لا يمكن السكوت. لم أحب يومًا ثقيل الظل ذاك، ولا زوجته. من تحسب نفسها؟ مدرسة جامعية، أم وزيرة؟ تتمخطر وأنفها في السماء، ولا تكلم أحدًا. متأكدة أنها مريضة نفسية. لا أستغرب أن تعتدي على البنت المسكينة.. يجب إبلاغ الشرطة....
نعم، ولكن قبل ذلك، يجب على رجال الحي أن يكلموا الزوج.
عدت إلى صاحبي وحدثته في الأمر، لم لا ندعو بعضًا من عقلاء الجيران إلى محله ونناقش الوضع؟
إبراهيم لم يكن متحمسًا، أو لعله لم يرغب في شغل نفسه بشيء غير أعماله، نادى عمر وسلمه بعض نماذج الخشب المنقوش، وطلب منه أن يأخذها إلى الفرنسي، «أنا معكم»، قال لي وهو يزيح أحد الألواح: «لكن لا تنتظروا مني أن أرافقكم لمقابلة الرجل أو للوقوف في أقسام الشرطة، لا وقت لديَّ» الفرنسي مستعجل....
انظر... ها هي.. همست له وأنا أرى الصبية تمر أمام المحل وتتلكأ وكأنها تود الدخول إليه. ألا تثير الشفقة؟ المسكينة لا تدري إلى من تلجأ...
مدت عنقها، وكأنها تبحث عن شخص ما، ثم تراجعت، وابتعدت.. قمت، وسحبت صاحبي رغمًا عنه خلفي، وانطلقنا في إثرها.
لن نبقى مكتوفي الأيدي.. سنلحق بالبنت ونخبرها أننا سنتدخل.
توقفت نفيسة فجأة، واجتازت الطريق بعجلة، وجرت إلى حيث يقف عمر، صبي صاحبي، وابنة الفرنسي.
تبعناها، وحملقنا مشدوهين في المشهد غير المتوقع، أخذت نفيسة بخناق الشاب، وهزته بعنف وهي تصرخ: «وماذا الآن؟ هل ستزعم ثانية بأنها شغل؟»، وما هذا الشغل الذي يملأ عليك أوقاتك ويجعلك تلحقه إلى باب داره؟ هل تستغفلني؟ تريد أن تستبدل بي هذه الفلعوصة؟ تظنني لعبة بين يديك؟ سأخنقك! سأشرب من دمك!
تدخلت الفرنسية، وارتمت نفيسة عليها، وكأنها لم تكن تنتظر غير ذلك، وشدتها من شعرها بعنف وهي تسب وتشتم، وجرينا نفكهما وإبراهيم يصيح بي: مسكينة، هاه؟! ضحية ضرب وسوء معاملة؟! كدت تفضحنا أمام الخلق يا رجل! نذهب للشرطة؟ والله لن تمسك الشرطة غيرنا! آآآخ...
لم أرد عليه.. لم يكن لديَّ ما أقوله.