الفندق حديث، يقوم في الساحة التي كنا نضطر إلى عبورها جريًا لهبوب الرياح الباردة، تقلّصت ساحتها الآن، بعد إقامة هذه المباني التي قرّبت المدينة من واجهة القاعدة الخراسانية، التي جرت محاولات بتجميلها بمنظومة إضاءة، من داخل الخرسانة تبدو عيدان حديدية غليظة القُطر، السقف مصمم بحيث يتحمل أثقل أنواع القنابل والطوربيدات، تحته تمتد الأحواض المستطيلة التي تؤوي الغواصات التي كانت تنطلق من مكامنها إلى عرض المحيط، في المراجع التي قرأتها عن الحرب تقدر الخسائر الناتجة عن هجوم الغواصات بالطنّ، نسبة إلى حمولة المركب الغارق، كم أغرقت هذه القاعدة، وكم غرق منها؟
لا تزال بعض قاعاتها المنفصلة عن بعضها بأبواب مصفحة، منفرجة الآن، لا أعرف استخداماتها الأصلية، خالية تمامًا، جدران هائلة الارتفاع، لماذا مع أن الغواصات منخفضة حتى عند ظهورها الأقصى بعد استقرارها بدون حمولة، ما المدى الذي وصلت إليه كل منها؟ ما أبعد نقطة؟ استعدت لحظة دخولي إحدى غواصات سلاحنا البحري، بصحبة صاحبي وزميلي مكرم جاد الكريم، بقي ماثلاً عندي لحظة التحرك إلى عرض البحر، ثم بدأ الغوص، إنه الطفو حيثُ لا فوق ولا تحت، لا بعد هنا أو هناك، لحظة تطلعي من النافذة المستديرة ملتزمًا ببطء الحركة ومحدوديتها، كل حركة تستهلك قدرًا من الأوكسجين المتاح للطاقم، ماذا في الغواصة التي تعمل بالطاقة النووية إذن؟ تمضي عدة شهور تحت السطح، على عمق كبير، في بداية سعيي قرأت كتابًا مترجمًا عن غواصة اسمها «نوبتلوس» أبحرت تحت المتجمد الشمالي، لحظة تطلعي من العمق وكان الوقت نهارًا، أشعة الشمس نافذة، لم نلج بعد الطبقات المعتمة، ألصقتُ وجهي بزجاج النافذة المستدير المحدود، المضغوط، لا نهائية الأزرق، مقبلة، مدبرة، لكم استعدتها، كما أثق أنني سأسترجع هذا البناء بتفاصيله الواضحة والغامضة بعد انتهاء وظيفته الأصلية التي صمم من أجلها، فوق السطح حيثُ أبراج المدفعية المضادة للطائرات، كان الضباب كثيفًا في الصباح الباكر، حاولت التحديق؛ حتى أرى المحيط، غير أنني لم أستطع، ليس بسبب الكثافة، إنما لعدم معرفتي الاتجاه الذي يجب أن أتجه إليه، يبدو الخليج ممتدًا إلى ما لا نهاية، لا يلوح مصب حتى امتزاج الماء بالضباب، إلى اليسار لمحت سفينة ركاب مرتفعة أحدث من تلك التي رأيتها منذ عامين بعد نزولي من القطار، بدون استفسار يمكنني القول إنها مخصصة لإصلاح السفن، ربما لإعادة تجهيزها، يبدو هذا من الأوناش والروافع.
أنزل من أعلى، فوق البرج الحديدي الحلزوني الموصل إلى طابق أدنى، يؤدي إلى الدرج الأسمنتي، كل المبنى أسمنتي، لا قالب حجريًا ولا جدار مغايرًا، مصمت، الإنارة ليست من فتحات دائرية تتخلل السقف، تتحاور مع حركة الشمس والنجوم لتجمع أطراف النور، وتصب باتجاه معلوم، هكذا الحال في معابد أبيدوس ودندرة والكرنك الأقدم، الضوء هنا يفد من الواجهات المفتوحة على الخليج، كل مرسى يتقدمه فتحة بارتفاع المبنى، تسهّل خروج الغواصة إلى الخليج، ثم.. أين المحيط؟ لم أصل إلى شاطئه المرة السابقة؛ لضيق الوقت، في هذه المرّة متسع، لكنني لم أحدد الوجهة حتى الآن، وأتمنى أن أتجه حيثُ يسعى محمود وماجي هناك، ما يستثيره المحيط عندي مغايرٌ لما يأتيني من البحر، مع أن الماء واحد، يتردد عندي بيت للشيخ أحمد برين المنشد، يطفو مهيمنًا: البحر واحد والسمك ألوان أحاوره عن بعد.