بساطة وابتسامة.. والبقية تأتي


سأل الابن والده، وقد نظر إلى التفاحة بين أصابعه بعد أن تعرّت، ولم يبقّ منها سوى أحشائها.. أبي لماذا تغيّر لونها وأصبح قاتمًا؟!!

أجاب الأب الكيميائي المخضرّم الحائز على مئة جائزة: بعد أن انتزعت جلدها تفاعلت أحشاؤها المتبقية مع الهواء، والذي تسبب في أكسدتها، وبالتالي بداية عملية الصدأ مع تركيبتها الجزئية، والتي ساهمت في تغيير لونها.

تلفّت الابن ذو الست سنوات حوله مندهشًا.. أتخاطبني يا أبي!! فقد الأب ابنه ولم يصل لعقله الصغير، رغم الجوائز والأوسمة.. رغم التكريم سقط الوالد - بالثلاثة- أمام فلذة كبده، ولم تسعفه شهادات الدنيا، تحولّت إلى شهادات زور باطلة أمام منصة فِكره البسيط!

تُرى كم مرة نسقط في حياتنا من على المسرح ونفشل في أن نرغم الحضور أن يُنصت إلينا، ولا تصل كلماتنا إلى القلوب رغم طرقنا وصراخنا باستماتة؟!

هي البساطة الضائعة التي تُفْقدنا حلاوة الأشياء، فنتوه في عيون مَنْ حولنا، هي البهارات التي نُضيفها بأيدينا إلى علاقاتنا وحواراتها دون أن نُفكر في محتواها..

هي النقاط والفواصل والحواشي التي ننثرها على صفحات حياتنا ظناّ منّا أننا نرتقي ونصعد سلالم المجد فإذ بنا نهوي، ونفشل في أن نوصل الرسالة، ليس المهم أن يبصم الطالب أنّ أستاذه -فلطوح زمانه- وقد حوّل الدرس إلى تحد ومعركة مع تلاميذه، ولا يهم القارئ كثيرًا أن يلقى كلمات مقعّرة حتى يستشعر ثقافة الكاتب وعظمته، هو لا يُبالي كثيرًا بعضلات القلم، هو يبحث عن قلب يرتمي بين أحضانه في عناقٍ دافئ، لا يموت مع المسافات الشاسعة وبرودة الزمن!! طامتنا في تلك الفجوات.. ما بين المثقف والمتلقي.. ما بين المعلم وتلميذه الفتي.. ما بين الزوج وشريكة الدرب الحائرة.. ما بين العالم الذي يسكن أبراجًا عاجية ولا ينزل على الأرض؛ حتى يُصافح قلوب البسطاء، ويسمع أنينهم، ويُصادق على آلامهم!! مشكلتنا في الهوة العربية الشهيرة التي تزداد مع الأيام ما بين القائد والناس وقضيةٌ تائهةٌ منذ ستين سنة لم تحل؛ لأنها فقدت أركانها الحقيقية، فغابت وتاهت وسط زحام حياتنا!! فجوة "تواصل" في حياتنا تكبر آثارها.. وتتسع!! رقعةٌ يزداد شقها مع الأيام، نتناسى أن من خلد ذكراه في هذه الدنيا كان سره في بساطته ووضوحه، وأن من وصل لمرفأ القلب بقي بصمته أزمانًا؛ لتنهل منه أجيال وأجيال؛ لأنه كان قريبًا جدًا، فما استطاع الغياب أن ينال من ذلك الحضور، كما يُقال إن كنت تعرف ولا تقدر أن تُوصل ما تعرف فأنت لا تعرف.

حين نصعد على مسرح الحياة وجلّ غايتنا أن يُقال إننا نفهم فقد ارتكبنا جُرمًا يُعاقب عليه القانون، وحين نُمسك بالورقة ونحن لا نعرف كيف نرسم حرفًا صادقًا يطرق باب القلب والعقل فقد خسرنا، وحين نُخاطب الناس بعجرفة متخذين من ألقابنا ومناصبنا متكئًا وملاذًا فقد فشلنا، وقطّعنا بأيدينا حبال الوصل والود، تضيع الطرود إن كانت الخرائط مهزوزة، وتتوه الرسائل في الجو العاصف تحت ضباب العتمة والظلام، وتُصبح المدن مهجورة، البساطة فنٌ، والابتسامة الحقيقة سحرٌ، وصراحة المعنى ووضوحه جسرٌ حي من لحمٍ ودمٍ ومشاعرٍ لا يعطب مع الأيام، ولن تنال منه عوامل التعرية الشهيرة، ابتسم وكن بسيطًا.. وصريحًا.. ثلاثة عناصر أساسية تردم الفجوة، سواء كنت مديرًا أو قائدًا أو أبًا أو صديقًا أو حتى عاشقًا ثائرًا يهوى بجنون أشعل غيرة القمر، تحياتنا وتقديرنا لبسطاء هذه الأرض فبهم تحل بركات الحياة. ...دمتم ودام الوطن بألف خير..